هكذا إذن وجدت نفسي على بعد عشرات السنين من طفولتي.. أتذكر وأحاول أن أتذكر تفاصيل محددة في بيوت متعددة وأماكن كثيرة وصور متنوعة، فأكتشف هلعي من بعد المسافة بيني وبينها.
انتقلت طفولتي مع انتقال البشر في بلادي وفي أماكن عديدة من العالم، إلى أشياء وأشكال ومظاهر عديدة. فجأة وفي السادسة من عمري مشينا أنا وأمي ذات مساء في شارع باتجاه السوق، وإذا بنا امام صورة متحركة على شاشة مضيئة في واجهة بين مبنى الإذاعة والتلفزيون في كرادة مريم وبين (الشواكة) في كرخ بغداد حيث الأسواق. كانت سفينة شراعية تمخر عباب المياه وعشرات البغداديين يحتشدون أمام الواجهة الزجاجية لمحل الأدوات الكهربائية، حيث جهاز التلفزيون من ماركة (پاي) الإنكليزية .كم هو بعيد هذا المشهد، حيث لم تعد المنطقة كلها قائمة بعد تحولات مأساوية من الحروب والآلام والدماء والدموع والرحيل المتدفق للبشر إلى الموت والأماكن والمنافي والنسيان. أصبح الزمن يمر سريعا كأنه هو السرعة التي نعيش عصرها. وأصبحت المسافات البعيدة وكأنها على رمية رمح في اختلاط عشوائي مثل اختلاط عقولنا وعواطفنا. لم يعد عمرنا زمنا متصلا، أصبح مثل أحجار متناثرة يكسوها دخان حرائق العمر.
كنا نحبو على أربع وتحولنا إلى اثنين وعدنا إلى ثلاث بانتظار أن نفقد الزمن ويتلاشى عن أعيننا الضوء. حيوات كثيرة تلتم على نفسها مثلما يلتم الحلزون. طاوية معها طقوسا مارستها وتعاويذ رددتها وابتهالات حبيسة في صدورها وتمتمات على شفتيها. هكذا هو قاموس الحياة الذي يختار منه البشر الكلمات التي يستعينون بها للتغلب على الخوف ويتحصنون بها للشعور بالأمان والدعة ويخففون قليلا من القلق وكثيرا من المخاوف .كانت الكهوف هي التي تأوينا وتصد البرق والصاعقة والمطر والعواصف عن أجساد لم تعرف بعد أن الحياة ما هي إلا شعور ينبع من الإدراك، ولم تعرف بعد ان كل ما تراه وتعانيه وتقاومه وتحاول أن تتغلب عليه إنما يوجد في الرأس، الرأس الذي يجعل البشرية مختلةً وتعيسة. ولكي تتجنب الاختلال راحت تبحث عن قوة رادعة لهذا الاختلال، لكنها لم تستطع تحاشي الاختلال وسقطت في التعاسة أيضا. أكداس من البشر تنحشر في باطن الأرض منذ وجد الإنسان. والباقون على قيد الحياة يسألون: أين يذهب هؤلاء؟ أبو العلاء المعري حل لغز الأعمى – البصير وقال، إن الأرض مكونة من أكداس البشر الميتين. البشر الذين يتساوون تحت الأرض، حيث ينعمون بالعدالة لأول مرة في موتهم.
كاتب عراقي
( بين مبنى الإذاعة والتلفزيون في كرادة مريم وبين الشواكة ). مبنى الإذاعة والتلفزيون كان في حي الصالحية ببغداد وليس بين كرادة مريم والشواكة.