أتيح لي أن أقرأ مؤخرا رواية «وطن مزور» للكاتبة الكويتية عائشة عدنان المحمود، الصادرة هذا العام، وهي الرواية الأولى التي تنجزها ولا شك ستنجز بعدها الكثير،
منذ بداية الرواية التي أسميها رواية أجيال أو ملحمة أجيال، رغم عدد صفحاتها القليلة، يتضح ذلك الكم المعرفي الذي اختزنته الكاتبة، وأفرجت عنه في الورق، هناك مجهود كبير في التقصي بلا شك، جعلنا نحيط بتاريخ وجغرافيا المنطقة العربية، التي تجري فيها أحداث النص، وهي مؤكد منطقة اليمن وجبالها، وانتهاء بدولة الكويت التي ستستقر فيها الأحداث لاحقا.
فترة الأحداث، تمتد من أربعينيات القرن الماضي إلى وقتنا الحاظر، نحن هناك في قرية من تلك القرى الصغيرة الخشنة في منطقة ما من شبه الجزيرة العربية، ستدل عليها معطياتها البيئية والاقتصادية والزراعية والاجتماعية، هناك حيث الكيان الأسري له تقديسه الخاص، الترابط وشيجة حتمية، والأسرة كلها تعمل في الزراعة من غرس للبذور إلى حصادها وتصديرها للمدن القريبة. هم يزرعون البن ويملكون أراضي شاسعة من أجل زراعته، والجد راعي أسرة العاطف، التي تتمحور حولها الحكاية، يمهد الطريق لسلالته لتحيا على نهجه في المستقبل، لكن ثمة حياة أخرى يرسمها القدر.
نتحدث عن سيف العاطف الذي وجد نفسه مزارعا في تلك التربة الخصبة، يعشق الأرض وما تنتجه، ولا يفكر في أي شيء سوى أن يظل محافظا على توازنه الحياتي، زوجته صالحة، امرأة قوية ونشيطة، وتملك قدرة فذة على احتمال تضاريس الحياة وتضاريس الأرض أيضا.. أكثر من ذلك، تساهم في إثراء الأرض وإثراء الحياة الزوجية، وتبدو في كثير من الأحيان أما وأبا للصغار في الوقت نفسه، خاصة حين عرف الأب سيف سكة السفر إلى الميناء الوليد، بتلك الشاحنات الصغيرة التي غزت القرى، حاملة الأحلام والأوهام معا، وعرف طريق التجارة الذي سيسلكه كثيرا تاركا صالحة تؤدي مهمة الالتحام بالأرض.
صالحة إذن تتحول إلى امرأة رأسمالية، وفي الوقت نفسه لا تهمل أنوثتها التقليدية، حيث تتزين بالذهب، وتحب مواطنا يعمل معهم في الأرض وتتزوجه في النهاية بمباركة أبنائها لأن لا خيار لهم سوى المباركة.
القصة تمضي وتفرز جيلها الثاني، حين يموت الوالد في حادث سير أثناء واحدة من أسفاره، وتبدأ هنا مهمة الأم صالحة، وهي الاستيلاء الكامل على الأسرة، ومدخراتها وإرثها ومستقبل أبنائها، وبذلك يخضع الأبناء لها تماما، حتى الذين تزوجوا منهم، يظلون خاضعين وأشبه بالأجراء في أرضهم. وقد ذكرني ذلك الوضع بالمجتمعات القديمة، حين كانت الأنثى هي المحور، الذي تدور حوله الحياة، والذكور مجرد مساعدين لإنجاح دورة الحياة. المتوقع في البلاد العربية وفي فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، أن تكون الذكورة هي السائدة بتحكمها في كل شيء، لكن دائما نجد نماذج تشذ عن القاعدة، وكنت أثناء طفولتي في السبعينيات، وحين نزور قريتنا في الشمال ألتقي بنساء من أمثال صالحة، يملكن أيضا مقدرة أن يدرن الحياة كيفما أردن، وبعضهن يتسلق النخل، ويلقحه أو يجز سبيطه المثقل بالتمر، أيضا يمكن أن ينفق الليل في حراسة الماء الذي يسقي أرضه، ليحوله من حقل إلى حقل، تماما مثلما يفعل الرجال.
صالحة إذن تتحول إلى امرأة رأسمالية، وفي الوقت نفسه لا تهمل أنوثتها التقليدية، حيث تتزين بالذهب، وتحب مواطنا يعمل معهم في الأرض وتتزوجه في النهاية بمباركة أبنائها لأن لا خيار لهم سوى المباركة. الآن سالم سيف العاطف، الابن الأصغر، الذي كان المقرب إلى الأم صالحة، وساعدها الأيمن في الزراعة وجني المحصول، والوحيد الذي لم يكن مرتاحا لزواجها من الرجل الذي يعمل لديهم، ستتفتح أفاقه فجأة، سيتعرف إلى أخبار وطن بديل تدفقت فيه الثروة فجأة، حين اكتشف النفط وأنهم بحاجة لعمال وسائقين وعسكريين ومهن كثيرة من أجل أن ينمو الوطن ذلك. هو وطن في شبه الجزيرة العربية أصلا ويمكن الوصول إليه بمشقة لكن فيه رزقا كثيرا. الرحلة إلى الوطن البديل طويلة، وينتج فيها الجيل الثالث من أسرة العاطف، الذي فيه السارد عمر، بعد أن يعود سالم ويتزوج من جنة، الفتاة الصغيرة التي من قريته، والتي يظل وفيا لها دائما، ووفيا لأمه أيضا.
لن أخوض في ما حدث في الوطن البديل، فقط أشير هنا إلى أن القصة هنا تأخذ منعطفا آخر، ليس منعطف القرى بخيرها وشرها، والمدن برزقها وعدم رزقها، إنما منعطف الهوية، وهو موضوع أثير لدى الكتاب الكويتيين، ذلك أن كثيرا من الناس الذين ولد أجدادهم هناك ما زالوا بلا هوية.. الجد يأتي ويعمل ويجيد تفاصيل الحياة المحلية، لكن يظل بلا وطن، الأبناء يأتون يرضعون تفاصيل الحياة، يدخلون المدارس، ولا هويات حقيقية لهم سوى هوية الوطن الذي يقطنونه وأيضا لا هوية.
إنها مشكلة كبيرة تستحوذ على حبر الكتابة، مثلما تستحوذ الحرب ويستحوذ التشرد واللجوء على كتابات الناس في سوريا والعراق، وأماكن كثيرة ضربتها الحرب، وموضوع الأزمات الاقتصادية والفساد في بلاد ضربتها تلك الأزمات وعشش فيها الفساد. ومؤكد ترد إلى الذهن رواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي» للراحل إسماعيل فهد، ورواية «ساق البامبو» لسعود السنعوسي التي تحدثت باستفاضة عن الموضوع.
عائشة هنا لم تزحف بروايتها بعيدا، لتقتنص شعوبا أخرى قد تكون تبحث عن الهوية في الوطن البديل، وإنما تتحدث عن أسر عربية، قريبة الشبه بأرض الوطن، وتحمل صفاته كلها خاصة في الجيل الثاني، جيل السارد عمر، سنجد اللهجة هي اللهجة نفسها، الملبس هو نفسه، والسلوك اليومي هو السلوك اليومي للشباب في الوطن البديل، فقط لا هوية رسمية تنسب عمر وأمثاله للوطن. عموما تظل رواية وطن مزور، ورغم كونها رواية أولى لعائشة المحمود، رواية جميلة، سلسلة، مكتوبة بسخاء شعري واقتصاد لغوي، ربما كان سيكتب في مئات الصفحات لولا ذكاء الكاتبة.
٭ كاتب سوداني
عنوان (وطن مزور) هل هو مقالة أم رواية للتعريف لأهل ما بين دجلة والنيل (أي تشمل تركيا وأثيوبيا) أم هو لتوضيح إشكالية هل (تابعية) أم (جنسية) لتحديد معنى الوطنية؟!
وأين مكان الإنسانية، في ثقافة الأنا لدولة الحداثة (البترولية)، خارج إطار ثقافة النحن للأسرة؟!
فتاريخ 2/8/1990 عمل على فضح حقيقة وجود دولة الحدود لسايكس وبيكو على أرض الواقع.
ورغم الحصار ومقاطعة الأمم المتحدة، فحضارة ووعي الجميع في الدولة، جعلها لم تترك واجبها، في المحافظة على كرامة الإنسان والأسرة والشركة، ومنع الموت جوعا، من خلال البطاقة التموينية كحاضنة للإقتصاد، ومقايضة البترول لتوفير الغذاء.?
شكرا الامير التاج وشكرا عايشة
شكرا استاذ أمير تاج السر شكراً عائشة