يقول التعريف الموسوعي إنّ The Church Committee، أو تسميتها القانونية الأدقّ والأطول: «لجنة مجلس شيوخ الولايات المتحدة الاختيارية لدراسة العمليات الحكومية ذات الصلة بأنشطة الاستخبارات»، كانت أولى اللجان التي منحت الكونغرس الأمريكي بعض (وليس البتة جميع) صلاحيات التحقيق في ممارسات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ووكالة الأمن القومي، ومكتب التحقيقات الفدرالي، ودائرة الإيرادات الداخلية. فرانك شرش، السيناتور الديمقراطي الشاب من إيداهو، ترأس اللجنة مفعماً بالطموح إلى كشف الخفايا وهتك الأسرار، وتوصل وزملاؤه إلى نتائج صاعقة، أو هكذا بدت حينذاك لأنّ ما ستتكشف عنه عقود الإدارات المتعاقبة سوف يحيل تلك الفظاعات إلى ألعاب أطفال.
ورغم جهود العرقلة الحثيثة التي بذلها كبار رجال البيت الأبيض يومذاك (وكانوا رهط «عتاولة» من عيار ثقيل، على غرار دك شيني الذي كان نائب رئيس أركان البيت الأبيض، وهنري كيسنجر وزير الخارجية مستشار الأمن القومي، ونلسون روكفلر نائب الرئيس)، فضلاً عن الرئيس نفسه جيرالد فورد؛ فقد أماطت اللجنة اللثام عن عملية أولى تضمنت تخدير مواطنين أمريكيي من دون علمهم، كجزء من تجريب طرائق التحكّم بالدماغ، وعملية ثانية تضمنت الرقابة والتلصص على منظمات حقوق مدنية وسياسية أمريكية، وعملية ثالثة موضوعها برنامج خطط سرّية لاغتيال زعماء أجانب في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتخطيط لانقلابات عسكرية هنا وهناك، والتعاون مع المافيا…
في سنة 1978 أنهت اللجنة أعمالها وأصدرت تقريراً في 6 مجلدات، كما نشرت 7 مجلدات أخرى تضمنت محتويات جلسات الاستماع؛ وفي سنة 1984 رحل السناتور شرش بعد أن سجّل واقعة أنه آخر عضو مجلس شيوخ ديمقراطي يُنتخب عن إداهو. ومؤخراً فقط، بعد 48 سنة على تلك اللجنة الرائدة التي قاد أعمالها، يثمّن منجزه ذاك كتابٌ رصين جامع صدر مؤخراً ضمن منشورات ليتل براون في نيويورك بعنوان «الرجل الشريف الأخير»، وقّعه جيمس وتوماس رايزن. وإذْ يقلّب المرء صفحات الكتاب الـ 480، فلعلّ الخاطر الأنسب الذي يطرأ على الذهن هو حكمة أبي نواس الشهيرة، محوّرة قليلاً بما يناسب المقام: فَقُلْ لمَنْ يدّعي العلم بالاستخبارات الأمريكية، حفظتَ شيئاً وغابتْ عنك أشياء!
وقبل سنوات غير بعيدة كان الصحافي الأمريكي جيف شتاين، المختصّ بكشف سوءات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، قد أعاد تعريف العالم على ميلارد شيرلي، الرجل الذي كان ذراع الاستخبارات الأمريكية الضارب في جنوب أفريقيا وفي الأصقاع الأفريقية عموماً، طيلة عقود. بين تلك الأساليب أن شيرلي اعتاد دسّ حامض البروسيك في مشروبات ضحاياه، بما يتسبب في ذبحة قلبية، ويُلزم أي طبيب بردّ الوفاة إلى أسباب طبيعية. حيلة أخرى كانت التسلل إلى صفوف المتظاهرين السود في جنوب أفريقيا، والتبرّع بأكبر كمية ممكنة من القمصان التي تحمل شعار حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي»، أو العبارات والرسوم المعادية للأبارتيد؛ قبل ذلك، يكون ميلارد قد نقع القمصان في محلول خاص يؤدي إلى حكّة شديدة والتهابات وحروق فورية في الجلد.
من جانبها تولّت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» كشف النقاب عن نجاح المخابرات المركزية الأمريكية في اختراق الأجهزة الاستخباراتية الإيرانية، ليس من البوّابة المحلية أو الشرق ـ أوسطية أو الإقليمية كما للمرء أن يتخيّل، بل من جهة قصيّة بعيدة غير منتظرة، هي… أمريكا الجنوبية! تنبّهت الوكالة إلى ازدياد أنشطة الاستخبارات الإيرانية في بعض بلدان أمريكا اللاتينية، فاخترقتها عن طريق عملاء زعموا الاهتداء إلى الإسلام، بل وأفلحوا في الوصول إلى طهران عن طريق بعثات خاصة نظمتها الحكومة الإيرانية ذاتها لتلقين المهتدين تعاليم الدين في العلن، وتدريبهم على الأعمال الاستخباراتية في السرّ، حسب الرواية الأمريكية بالطبع.
وفي سنة 2017 احتضن «بيت ثقافات العالم» في برلين معرضاً متميزاً بعنوان «شِبْه سياسة: الحرية الثقافية والحرب الباردة»؛ أعلن منظموه أنه مكرّس للبُعد العالمي للسياسة الثقافية و»المعاني والأغراض المتغيّرة التي اقترنت بالحداثة». ويبدأ مفهوم المعرض من حقيقة أنّ الفنون والثقافة دخلت، بعد الحرب العالمية الثانية، في صميم صراعات المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، ضمن ما يشبه «سباق تسلّح ثقافي»؛ بدأ، حسب النصّ المثبت في نشرة المعرض، بتأسيس «مؤتمر الحرية الثقافية» في حزيران (يونيو) 1952، في برلين الغربية، بمبادرة أمريكية. ومن مقرّه الإداري في باريس، موّل المؤتمر برامج ثقافية لا حصر لها، شمل نطاقها الجغرافي بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأوسط، وانطوت على تطوير شبكة من المجلات والمؤتمرات والمعارض في بريطانيا وألمانيا ونيجيريا واليابان ولبنان وبلدان أخرى؛ رفعت شعار لغة «كونية» للحداثة في الأدب والفنّ والموسيقى، وعكفت على تطوير التيارات الليبرالية، ومدارس الحداثة التعبيرية والتجريدية والدادائية. وفي سنة 1967، كُشف النقاب عن هوية المموّل الفعلي للمؤتمر، واتضح أنها المخابرات المركزية الأمريكية.
وأنْ تبقى غائبة عن المرء أشياء وأشياء بصدد الاستخبارات الأمريكية، هو مبدأ لا يكتفي مؤلفا كتاب «الرجل الشريف الأخير» بإقراره على طريقتهما بالطبع؛ بل يعمدان إلى عنونة أحد الفصول بـ»الهاوية التي لا سبيل للعودة منها»، أو حتى الرجوع عنها لمَن يشاء؛ أو «لا سقوف تُرفع أمام أيّ حدّ»، كما يقول عنوان فصل آخر.