في سنة 1959 صدرت ‘حزن في ضوء القمر’، المجموعة الأولى للشاعر السوري الكبير محمد الماغوط (1934ـ2006)؛ الذي مرّت، يوم 3 نيسان (أبريل) الجاري، ذكرى رحيله الثامنة. فصلية ‘شعر’، بوصفها الناشر، اعتمدت إعلاناً ترويجياً للمجموعة (قد يكون رئيس التحرير، يوسف الخال، هو الذي كتبه بنفسه)، شدّد على حداثة ‘الأداء’ في شعر الماغوط من جهة، وعلى قبوله الحسن لدى الشعراء والقرّاء من جهة ثانية: ‘هذه أوّل مجموعة تظهر لهذا الشاعر الفذّ الذي أوجد لنفسه طريقة جديدة في الأداء الشعري، فصادفت عند الشعراء تحبيذاً وعند القرّاء ترحيباً وحماساً. إنه وجه طالع مشرق في هذه المرحلة من نهوض الشعر العربي’.
كان هذا التفصيل لافتاً، في الواقع، لأنّ ‘الأداء’ الشعري لم يكن السمة المميزة التي يتوقف عندها تحرير ‘شعر’، عادة، في إطراء مجموعات أخرى صدرت عن المجلة ذاتها، واعتمدت أيضاً شكل قصيدة النثر. كان الأمر أقرب إلى إقرار مبكّر، وغير مسبوق أو مألوف في ‘الفلسفات’ الجمالية التي اهتدى بها كبار فرسان المجلة، بأنّ للماغوط أسلوبية منفردة مميّزة ذات صلة بما يتولاه النصّ الشعري، وليس الشكل وحده، من وظائف أدائية. وأيضاً، كان مجرّد التركيز على مفهوم الأداء، الذي يحيل عادة إلى قصيدة العمود والتفعيلة والوزن في المقام الأوّل، يراود ضمناً تلك العلاقة الإشكالية شبه الغائبة، عسيرة الولادة يومذاك، بين قصيدة النثر والقارىء العريض.
لفتت الانتباه، كذلك، صفة ‘الفذّ’ التي أطلقها الإعلان على شاعر كان آنذاك في الخامسة والعشرين من العمر، ولم يكن في عداد أبرز نجوم ‘خميس مجلة شعر’، اللقاء الأسبوعي الذي ضمّ أمثال أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج وتوفيق صايغ وجبرا ابراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي ونذير العظمة وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة وجورج صيدح وحليم بركات وفؤاد الخشن وطلال حيدر وصلاح ستيتية؛ كما استضاف، في مناسبة أو أخرى، أمثال بدر شاكر السياب ونزار قباني وجورج شحادة ونازك الملائكة وبلند الحيدري وفدوى طوقان… صحيح أنّ الماغوط لم يكن في صفّ ‘الكومبارس’، التعبير الطريف الذي اختاره رياض نجيب الريس لنفسه في ‘الخميس’، لكنه في كلّ حال لم يكن في عداد النجوم أو أهل ‘السلطة’ في الحركة، والتعبير للريس هنا أيضاً.
شخصياً، ومن موقع دارس الشعر العربي المعاصر، وشكل قصيدة النثر وتياراتها تحديداً؛ شدّتني، على الدوام، اثنتان من وقائع ارتباط الماغوط بحركات التجديد الشعري العربية. ففي أواخر خمسينيات القرن الماضي، شاءت الشاعرة العراقية نازك الملائكة الانخراط في معركة معايير الشعر (وكان الموزون، سواء قام على عمود أو على تشكيلة تفاعيل، هو وحده الشعر عندها)؛ وخوض معركة التسميات (إذْ رفضت مصطلح ‘قصيدة النثر’ جملة وتفصيلاً، كما أبت على الناقد والروائي والشاعر الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا استخدام مصطلح ‘الشعر الحرّ’ بديلاً عن ‘قصيدة النثر’، لأنّ المسمّى في رأيها لا يستحقّ صفة الشعر أساساً!). مدهش، في المقابل، أنّ النصّ الشعري، الذي اختارت تثمينه عالياً، لم يكن من أنسي الحاج أو يوسف الخال أو أدونيس (أقطاب قصيدة النثر آنذاك، في مستوى الكتابة الشعرية ومستوى التنظير على حدّ سواء)؛ بل قصائد الماغوط، في مجموعته الأولى!
الواقعة الثانية هي موقف جبرا من شعر الماغوط، إذْ رغم أنّ الأخير كان عصاميّ الثقافة، لم يدرس في كمبرج أو أكسفورد أو السوربون، ولم يمتلك ناصية لغة أجنبية يقرأ بها (كما كانت حال الغالبية الساحقة من أفراد حركة مجلة ‘شعر’)؛ فإنّ جبرا لم يتردد في ضمّه إلى صفّ التيار الأنغلو ـ سكسوني، إلى جانب توفيق صايغ ويوسف الخال وإبراهيم شكر الله وجبرا نفسه؛ الذي كان يقابله تيّار فرنكوفوني، ضمّ أدونيس والحاج أساساً. وإذْ أخذ على أدونيس ولعه بـ’الوحش الأكبر في الشعر’، أي التكثيف اللفظي الذهنيّ المفتقر إلى الحسّ والفكر، والتناقض بين تموزيته وإسلاميته، تاريخيته ومعاصرته، سرياليته ووعيه المقصود؛ فإنّ جبرا امتدح نصّ الماغوط على نحو لافت تماماً، فاعتبره ‘أبرع مَنْ يستخدم المونتاج بسخاء تلقائي’. وعند جبرا كان المونتاج سمة مركزية كبرى في الشعريات الرفيعة، لأنه يتيح ‘تعاقب الصور على نحو خاص مستهدفاً نتيجة عاطفية معينة، وهذا ما يفعله الشاعر المعاصر، إذ يلحق الصورة بالصورة، أحياناً على نهج سريالي، والسرياليون تعلموا الكثير من المونتاج السينمائي’؛ وكان مثاله المخرج الروسي سيرغي أيزنشتاين، في شريطه الملحمي ‘البارجة بوتومكين’، وخصوصاً سياق ‘أدراج أوديسا’ الشهير.
هذه الوقائع، وسواها كثير، علائم بيّنة على المكانة الرفيعة التي حظيت بها قصيدة الماغوط منذ أطوارها الأبكر، ليس في صفّ شعراء قصيدة النثر إجمالاً، وحركة مجلة ‘شعر’ بصفة خاصة، فحسب؛ بل كذلك، وهو الأهمّ والجوهري، على صعيد الذائقة العامّة. فكيف إذا كانت تلك المكانة قد ترسخت خلال مراحل حافلة بالتعطّش إلى التجديد، والتبدّلات القلقة في الحساسيات والأساليب والأشكال؛ فضلاً عن الصعود الخاطف، مثل الأفول السريع، لحداثات متلاطمة متصارعة، بعضها أصيل ومعظمها زائف؟ كانت معادلة الماغوط مختلفة، لأنّ الإجماع على شعريته العالية كان شبه تامّ، فبدا لإقرار بريادته تحصيل حاصل، واعترافاً ضمنياً بأنه الشاعر ـ المعلّم.
كل الشكر لك أخي الكاتب صبحي حديدي على هذه اللفتة والتذكرة برجل قارع الزمن الأسود حوله بأبجدية بيضاء، هكذا نزف الماغوط أخر قطرة دمع عصرها قلبه على واقع الأمة الأليم ، لنذرف نحن الدموع دماً في 3 نيسان 2006 بقي الحزن في ليل طويل لا ينتهي ، بلا ضوء .. وبلا قمر