عاد إلى وطنه الذي لم يغادره لينجز فيلماً عن الاجتياح الإسرائيلي
بيروت-“القدس العربي”:المخرج اللبناني وليد مونس الذي أبعده الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 عن وطنه إلى الولايات المتحدة يرى نفسه مكافحاً ضد الحروب، ولهذا كان فيلمه الروائي الأول عن تلك المرحلة التي حفرت عميقاً في ذاكرته.
أنجز مونس عمله السينمائي “1982” بكثير من الدقة والدراية بكل مشهد وصورة، بحيث أتى توظيفها مؤثراً في سردية الفيلم ومساره. كان التكثيف سمة أساسية لهذا الإنجاز الفني الذي نقل إلى الشاشة أحداث يوم من حياة تلامذة ومعلميهم في مدرسة جبلية يداهمهم الاجتياح الإسرائيلي. فيلم يقدم صورة مشغولة بعناية عن الانقسامات والتناقضات اللبنانية، بدون انحياز لجهة على حساب أخرى.
تجربة ناجحة خاضها وليد مونس مع ممثلين على درجة عالية من الحضور والاحتراف، ومع أطفال عرف جيداً كيف يوظف حضورهم أمام الكاميرا فكانوا عفويين تماماً.
مع المخرج وليد مونس هذا الحوار:
*في أي المهرجانات يشارك فيلم “1982” حالياً؟
**يشارك في مهرجان “حرب على الشاشة” في فرنسا. إنها مشاركة أفرحتني لأن الفيلم حصد الكثير من الثناء، وبخاصة من الذين قالوا أن “1982” فيلم عن الحرب ولم تطلق خلاله رصاصة. بالنسبة لي هو ليس فيلماً عن الحرب، بل فيلم تغيير مصير. وبعد فرنسا سيشارك في مهرجان “نمور” في بلجيكا. كما ويتابع عروضه في السويد في مهرجان الفيلم العربي، وفي شتوتغارت في ألمانيا في مهرجان الفيلم العربي أيضاً، ومن ثم سيكون في مهرجان في واشنطن. عربياً لا يزال الفيلم يلعب في سينما زاوية في القاهرة. ورغم تعثر عرضه في لبنان بسبب الانتفاضة ومن ثم كورونا وأخيراً انفجار المرفأ، فقد انطلقت العروض في بداية هذا الشهر في سينما فوكس وهي الوحيدة الصالحة للعمل في لبنان بعد الانفجار.
*لماذا فيلمك الروائي الأول “1982” يعود لمرحلة صعبة من تاريخنا اللبناني؟
**هذا التاريخ لم يغادرني، غادرت لبنان ولبنان لم يغادرني. بالتأكيد إنجازي للفيلم شكل في مكان ما علاجاً، وعندما حصل انفجار الرابع من آب/اغسطس اجتاحتني المشاعر نفسها التي خلّفها في نفسي اجتياح 1982. هما معاً شكلا ضربة جماعية للناس. وكانت حرب 2006 ضربة جماعية. “أنو خلص”. فيلم “1982” يقدم تناقضاتنا اللبنانية بوعي، فلربما ننكفئ عن دخول الحروب، فمن هذا المنطلق أنجزته.
*وهل تنتهي الحروب في رأيك بدون إقتلاع سببها؟
**مطلقاً. في رأيي الشخصي ليس هناك من سلام دون عدالة. فالسلام دون عدل يحمل في طياته فتيل انفجار، وهذا مبدأ ثابت في الحياة. فيما نعيشه كلبنانيين أجد أننا شعب لم يظلم بعضه، بل جاءه الظلم من الخارج.
*ما هي التحديات التي واجهتها خلال إنجاز الفيلم؟
**إنه التمويل الذي يواجه السينما اللبنانية والعربية بشكل عام، خاصة وأننا حيال فيلم ليس كوميدياً. أردته فيلماً صريحاً يشق طريقه نحو الجمهور. أؤمن بأن الأفلام التي تحقق النجاح هي المتمكنة فنياً وفكرياً. منهم من يرى استحالة جمع الفن والفكر معاً، لكني لست مؤيداً لهذه النظرية. يمكن للمشاهد متابعة فيلم يتعلم منه أمراً ما، وأن يحقق له فرحاً، ويحرك مشاعره ويبكيه ويضحكه في آن. وهذا ما سعيت لإبرازه في “1982”.
*رسمت من خلال السيناريو تناقضات المجتمع اللبناني بكاملها دون تبنّي لموقف بعينه. هل هو الحياد في تقديم عمل سينمائي؟
**إنها وجهة نظري. أرى نفسي أكثر في خط اليسار، ومهما كان مبدأي السياسي فأنا أرفض العنف. من هذا المنطلق كتبت الفيلم، فقد وجدت أن الحرب لم تساعدنا بل قتلتنا. قد لا نتوافق على أمر ما إنما ليس ضرورياً أن نشعل حرباً. من هنا أرى نفسي بعيداً عن الحروب، مع التأكيد على أن قاعدة العدالة هي الأساس. لهذا جرّبت أن لا أجزم وأن أتفهم وجهات النظر التي كانت قائمة في لبنان، وحتى داخل عائلتي. هذا جميعه لم أكن أفقهه في صغري، وقد أصبح واضحاً لاحقاً. أظهر الفيلم اختصاراً للحالة القائمة في لبنان، ولم أرغب بالذهاب بعيداً في الجانب السياسي، لأن طموحي كان فيلم ذو طابع إنساني أكثر. أظهر الفيلم دور السياسة في تحطيم العائلات، وتهشيم المشاعر على مختلف مستوياتها. فيما طغت الصراحة التامة على تعبير الصغار، لأنهم لم يتأثروا بعد بما يدور من حولهم. بالنهاية عندما يقع خلاف بين زوجين فالأهم هم الأطفال بالتأكيد.
*لماذا خلا الفيلم من إشارة إلى منظمة التحرير الفلسطينية مع العلم أن هدف الاجتياح الإسرائيلي المعلن كان “اقتلاع المخربين الفلسطينيين”؟
**ثمة إشارة إلى الهدف الإسرائيلي المعلن وردت في واحدة من نشرات الأخبار التي كان الممثل رودريغ سليمان “جوزف” يتابعها. تلك الأخبار الواردة عبر الإذاعات كانت متناقضة خلال الفيلم، فما كانت تسمعه “ليلى” الممثلة علية خالدي يختلف عن النشرات الأخرى. لم ترد إشارة مباشرة عن هذا الهدف. وسواء أرادت تلك الحرب إبعاد الفلسطينيين، أو سرقة لبنان فهو عمل خاطئ بالنسبة لي. إنه موقفي من الحرب ككل. فالفيلم بالنسبة لي “تنذكر وما تنعاد”.
*حدثنا عن اختيارك للممثلين وهل خضعوا لكاستينغ؟
**اخترت الأطفال بعد كاستنيغ كبير، وكنت قد أعددت مسبقاً مسار التمارين معهم الذي امتد لشهر ونصف، وصولاً إلى حضور طبيعي أمام الكاميرا. معرفة مسبقة جمعتني ببعض الممثلين ومنهم من شارك في الاختبار. الغريب أن كاستينغ الكبار كان أصعب قليلاً من ذاك الذي كان مع الأطفال، والسبب أني مع الكبار كنت أسأل إن كان الممثل سيثق بما سأطلبه منه أم لا؟ وكانت الخلاصة أن كل من عملوا معي منحوني الثقة التامة، وبالوقت عينه أعطيتهم ثقتي التامة. لم يكن لأي ممثل دور صغير. فحتى سعيد سرحال الذي أدى دوراً صغيراً في بداية الفيلم يلازمنا حضوره حتى نهايته. أدى سرحال مشهداً وحيداً لكنه طغى على السيناريو. كذلك كنا مع مشاعر رودريك سليمان اليساري المتمسك بمبادئه. وشخصيات ندين لبكي وعلية الخالدي وزينة ديميليرو. كان لكل من الممثلين حرية التعبير عن مفهومه للشخصية.
*إدارتك الجيدة للممثلين وخاصة الطفلين كانت ظاهرة في الفيلم. كم كان هذا سهلا؟
**كانت التجربة رائعة. عملت مع الأطفال لشهر ونصف قبل الوصول إلى التصوير حتى استوعبوا الأحداث داخل الفيلم تماماً. عندما كنت أشعر خلال التصوير بحاجتهم للوقت كنت أمنحهم إياه. بعد نيلي لثقتهم لم أكن أحتاج للكثير من الكلام خلال التصوير.
*نقلت الكاميرا صوراً جميلة للطبيعة الجبلية ولطيور الحمام. كيف وظّفت تلك المشاهد في ظل توتر كبير سبّبته أصوات الطائرات الحربية والقصف الجوي؟
**ليس لنا إقصاء الطبيعة من فيلم لبناني. كمخرج أجد أن الطبيعة تتكلم، وتقول لنا أكثر مما يمكن أن نقرأه عنها. غالباً أستغل تعبير الطبيعة في أفلامي. كما اولي لأبعاد الصورة أهمية كبيرة على صعيدها المادي وليس البصري فقط. للطيور في مدينة بيروت حضورها، فالسطوح كانت تعمر ببيوت الحمام والكشاشين. وجود الحمام في المدرسة في رأيي أمد مشاهدي الفيلم بالطاقة، لكن الحمام في بلادنا لم يعد لديه سطح يأوي إليه، وهم في بحث عن بديل. كصانع أفلام أجد هذه المشاهد تمس الإحساس دون أي كلام. أثق باحساسي وأعمل دائماً لقراءة الطبيعة والشجر وصوت العصافير وصوت الزيز، وعلينا أن لا نهمل سماع ذلك. أسعى دائما لإيصال المشاهد إلى مكان يفكر فيه، ويحمله نحو رؤى أخرى. وآمل أن أكون قد نجحت.
*هل المشاريع السينمائية التي تراودك جميعها عن لبنان؟
**تراودني الكثير من المواضيع اللبنانية، وتبقى كيفية معالجة الموضوع هي الأهم من الموضوع بذاته. بالطبع أنا بصدد مشاريع عمل لبنانية إلى جانب أخرى غير لبنانية. تعنيني الناحية الفنية والموسيقية والإنسانية في كل جديد أقدمه.