وليلي مدينة أثرية رومانية بنكهة مغربية تحكي حوار الثقافات وتلاقي الحضارات

عبد العزيز بنعبو
حجم الخط
0

الرباط ـ «القدس العربي»: في منطقة واحدة متقاربة جدا في المغرب، تجد وليلي وبجوارها زرهون، ثم تواصل الصعود نحو قصبة بني عمار، وقبل ذلك تكون قد فارقت مدينة مكناس، وهي الحاضرة التاريخية الكبرى في المنطقة، لذلك فإن المكان كله تاريخ أصيل، لكن وليلي تتربع على رأس القائمة، فهي أقدم بكثير من جاراتها، تلك البلدات التي تحكي كل واحدة منهن قصة مثيرة ومختلفة، لكنها تتوحد في الأصل وهو المغرب.

الطريق نحو وليلي

فوليبليس الاسم الأعجمي للمدينة التاريخية وليلي، التي تحولت إلى موقع أثري يجذب إليه الكثير من الزوار سنويا، سواء على مستوى السياحة الخارجية أو الداخلية، لأن فضول المعرفة يتقاسمه الجميع بين سائح أجنبي ومواطن مغربي يريد عيش اللحظة في تماهٍ تام مع الماضي، حين يعانق تلك الأعمدة الشاهقة وما تبقى من أقواس ساهمت في الحفاظ عليها عمليات الترميم التي تواظب عليها وزارة الثقافة ومعها الجهات المختصة بحماية التراث المادي في المغرب. الانطلاقة من مكناس عاصمة الزيتون أو العاصمة الإسماعيلية، نسبة إلى مؤسسها السلطان إسماعيل العلوي، على بعد 30 كيلومترا، تبدأ إشراقة تاريخ مغاير تماما، تاريخ حضر فيه الرومان أيام مجد الإمبراطورية المذكورة.
تلك القرون التي تدل على قدمها أطلال وليلي، هي في الأصل دليل على قدم المغرب من خلال قبائله الأمازيغية، وذلك التاريخ الطويل من العمران وغيرها من مظاهر الحياة، هي بطول وجود السكان المحليين الذين أسسوا لوجودهم بشكل مغاير ينبني على الحوار أولا، ثم الاستفادة من الحضارات الأخرى، ومنها الإسلامية والعربية.
علامات التطوير الطرقي تملأ جنبات العبور التاريخي إلى الموقع الأثري، ومعه كل البلدات الأخرى التي يغلب على بعضها الطابع الريفي باستثناء زرهون التي تعيش رفاهية المدن من حيث العمران وسبل العيش ووسائل النقل والمقاهي والمطاعم، لكنها تحافظ على أصالتها.
الزائر الحديث لمدينة أو موقع وليلي الأثري، سيجد حتما نفسه في حيرة لاكتشاف باقي الأماكن المجاورة لهذه المعلمة العتيقة التي تتحدث عنها كتب التاريخ، فسكان تلك البلدات هم جيران سكان وليلي، أو بالأحرى الأجداد تجاوروا وتعاملوا مع بعضهم البعض تجاريا واجتماعيا ربما، كما أن وليلي كحاضرة في سالف الزمان كانت تغري الجميع بزيارتها والاستحمام في حماماتها والتنزه في حدائقها والتسوق من أسواقها، وتحضر بعض المشاهد من أفلام تاريخية صورت نمط المدن الرومانية وطرق العيش فيها، وهي تماما ما يستحضره أي سائح يلمس العشب الذي مازال تحت الأعمدة الشاهقة أو عند أقدام بعض الشواهد لبيت كان هنا وآخر كان هناك، ويتصور الشوارع والأزقة والدروب التي مرت منها خطوات أجيال قديمة جدا.

البدايات

التاريخ يكفي كل باحث عن تأسيس وليلي، التي ارتبطت بما سمي «مقاطعة موريطنية الطنجية» في عهد الإمبراطورية الرومانية، وكان ميلادها في القرن الثالث قبل الميلاد، كمستوطنة أمازيغية، لتتحول إلى إحدى حواضر الرومان في تلك المقاطعة المذكورة في العام 42 ميلاديا.
المنطقة هناك تغري بالاستقرار والاطمئنان، فقد فعل الأمر نفسه مؤسسة دولة الأدارسة، إدريس الأول لكن في مدينة قريبة من وليلي وهي زرهون، وارتبطت باسمه وله فيها ضريح وموسم سنوي، كذلك سبقه إلى ذلك الرومان وهم يحطون الرحال وسط منطقة توفرت لها هبات ربانية من الموقع الاستراتيجي إلى الطبيعة الخلابة مرورا بخصوبة الأرض، وأشجار الزيتون الراسخة في الأرض.
لذلك، فإن ازدهار وليلي في فترة الحكم الروماني ساهمت فيه الطبيعة بشكل كبير، فقد مكّنها موقعها من أن تصبح مركزًا تجاريًا أساسيا، بسبب توفرها على مسالك التجارة بين أفريقيا وأوروبا.
لم يترك الرومان وليلي بعد اكتشاف أهميتها الاستراتيجية دون أسوار تحصنها، أسوار قوية بها العديد من الأبراج والأبواب الكبيرة، فكان الزيتون إحدى نقط القوة الاقتصادية، لأنها عرفت بإنتاجه بكثرة، وكان أحد المنتجات الزراعية التي تم تصديرها إلى مناطق أخرى تحت حكم الإمبراطورية الرومانية.
منتجات أخرى ساهمت في ازدهار وليلي الاقتصادي، وكان لهذا الأخير اليد الفضلى في جعلها حاضرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، من حيث الهندسة المعمارية للمدينة، وتلك المباني الفخمة والمعابد والأقواس التذكارية، والأزقة والدروب والشوارع، فكانت نموذج للتمدن في أبهى حلله وأفخمها.

أثر بعد عين

بعد نعيم التمدن، حلت مرحلة العيش في نعيم الذكرى والمعالم الأثرية، ويضع الزائر للموقع خريطة بكل خطواته، وعلامات على المناطق التي تبطل عدم زيارتها «الحج» التاريخي (إن جاز التعبير) لوليلي، فهي الجامعة بين متعة السياحة ورفاهية الثقافة، المعرفة تقدم للسائح على طبق من طبيعة، بين الخضرة وتحت سماء صافية وهواء منعش تفوح منه نسائم الجبال القريبة منها.
الخوض في حديث المعالم الأثرية لوليلي، يحيل على واقعة طريفة تمثلت في محاولة مسؤول في بلدية فاس قبل سنوات خلت، بناء مجسم لبرج «إيفل» في وسط العاصمة العلمية، وقد جر عليه ذلك موجة من السخرية العارمة ناهيك عن النقد اللاذع، ومن التعليقات الاستثنائية ذات الحمولة التاريخية، ما قاله أحد الظرفاء، وهو ينبه إلى أن أحد معالم باريس هو نسخة من معلمة قديمة جدا في المغرب، ويتعلق الأمر بـ«قوس النصر» في وليلي، الإسقاط هنا من باب الطرافة، لكنه حقيقة تاريخية.
والحقيقة أن أول ما يزوره السائح، هي تلك المعالم الأثرية التي تميز وليلي، والتي ما زالت قائمة وشاهدة على عصر مضى، ومن بين تلك المعالم «قوس النصر» المزين بزخارف ونقوش دقيقة تعكس الروعة المعمارية الرومانية، والذي يصنف كأحد أهم معالم المدينة الأثرية التي ما تزال حاضرة إلى يومنا هذا، وقد بُني في عام 217 ميلاديًا تكريمًا للإمبراطور الروماني كاراكلا ووالدته جوليا دومنا.
معهد «الكابتول» بدوره ينال نصيبه من الأهمية لما يختزنه من حكايات خاصة أنه كان مزارا دينيا، ناهيك عن كونه أحد أكبر المعابد في شمال أفريقيا، ويتميز بواجهته الضخمة وأعمدته العالية التي كانت تطل على الساحة العامة، وقد تم بناؤه على شرف الثالوث الروماني المكون من جوبيتر وجونو ومينيرفا.
المرشد السياحي يجتهد في وصف ما كان ويشير إلى تلك الأطلال بصيغة الماضي، لكنها ما زالت حاضرة كشهادات تاريخية، وتدل على رفاهية العيش في مدينة متحضرة كوليلي، كانت فيها «الحمامات العامة» من أساسيات المعيش اليومي لسكان المدينة اسوة بباقي المدن التابعة للإمبراطورية الرومانية، وهي شبيهة بحمامات اليوم في المغرب، فيها أقسام مختلفة الحرارة من البارد نسبيا إلى الساخن جدا وفي بعضها غرف البخار، ودائما داخل جدران البنايات تقدم المنازل الفاخرة نفسها عربون ثراء بعض العائلات التي عاشت في وليلي، حيث الفسيفساء الملونة التي تحكي قصصا مصورة عن الأساطير الرومانية وبعض تفاصيل حياتهم اليومية، ومن بين تلك المنازل الفخمة، يقف المرشد السياحي عند منزل أورفيوس ومنزل ديونيسوس وهما من بين تلك المنازل التي ما زالت تحتفظ بفسيفسائها.
كما هو الحال في أفلام التاريخ، حين يجتمع الرومان في ساحات عامة لسماع خبر أو التداول في مستجد، أو التجارة، في وليلي أيضا ساحة عامة، والتي تسمى «الفوروم» وهي قلب المدينة الذي ينبض بالحركة، وفيها كان الناس يتجمعون حول مختلف مشاغلهم اليومية، وهي عبارة عن فضاء مرصف تحيط به المباني والمعابد، وتؤثثه تماثيل أباطرة الرومان وشخصيات هامة.
وليلي كما هو ثابت تاريخيا، لم تظل رومانية، بل تحولت إلى سلطة القبائل الأمازيغية في المنطقة، وذلك بعد تراجع الإمبراطورية الرومانية، وتعرض مناطقها الحدودية لهجمات ومنها المدينة الأثرية، وكانت نهاية عهدهم بالانسحاب كليا وذلك عام 285 ميلادية. لم يتوقف نبض وليلي، بل واصلت المسير المزدهر لقرون عديدة، حتى بلغت مرحلة الحضارة الإسلامية، لتكون مركزا مهما أيضا، كما انضمت إلى عهد حكم مؤسس دولة الادارسة، إدريس الأول، وكانت مقرا لحكمه فهي مجاورة لزرهون، لكنها تراجعت خلف الأضواء بعد انتقال مقر العاصمة إلى فاس.

رمز لحوار الثقافات

أن تتحول وليلي إلى مجرد أطلال، فتلك سنّة الحياة وتداول التاريخ، لكن النسيان لم يطلها أبدا، فتلك النهاية كانت مجرد بداية لمرحلة أخرى يسترجع فيها المغاربة ومعهم العالم أجمع، أنجع الطرق لتلاقح الحضارات وحوار الثقافات، والحديث هنا عن مجاورة الرومان للأمازيغ.
فضل علماء الآثار على الإنسانية كبير جدا، فهم من مسحوا الغبار ونفضوه عن ملاحم تاريخية لم نكن سنكتشفها لولا صبرهم وحرصهم على استرجاع ما مضى من حياة السلف، وليلي هي هبة تاريخية أخرى مشرقة جدا اليوم، وتم اكتشاف موقعها من قبل علماء الآثار الأوروبيين في القرن التاسع عشر، لتتحول إلى موقع أثري مهم جدا، حتى أدرج عام 1997 نظرا لأهميته التاريخية والثقافية، ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو.
قد يكون السائح مفتونا بعظمة التاريخ وما تركه السلف من بنايات وأعمدة وحكايات تروى في كتب التاريخ ويسردها المرشد السياحي بكل حب وشغف، لكنها ليست فقط مجرد أثر بعد عين، هي حاضر الحكمة التي يمكن أن يستخلصها الانسان من فضيلة التعايش والتساكن والحوار، وذلك هو نهج المغاربة منذ القدم.
يمكن اعتبار وليلي، رمزا ثقافيا وحضاريا حيث تتلاقى الثقافات وتجاورت قبائل الأمازيغ المغربية مع الحضارة الرومانية التي قدمت على طبق من وليلي وليس فقط من فضة أو ذهب، المدينة بكل بساطة تحولت من حاضرة قديمة إلى أيقونة، وأرض خصبة نبتت فيها قيم التواصل الثقافي والتجاري بين الحضارات المختلفة، كما أنها ملهمة للعديد من الكتابات واللوحات التشكيلية التي أبدعها مغاربة بعد أول زيارة لها وهي أطلال تحكي ما تحكيه، وتهديهم فرصة ثمينة تتمثل في فهم أفضل الطرق للتفاعل الثقافي عبر مختلف مراحل التاريخ والعصور الغابرة.
من جهتها، لم تبخل الجهات المختصة في الحفاظ عليها وترميمها، فهي تحد مستمر من أجل إبقاء هذه المدينة شاهدة على ما مضى وحاضرة في يوميات الأجيال المقبلة، ولا تبدو مهمة وزارة الثقافة أو السياحة أو المؤسسات التي تعنى بالحفاظ على التراث، سهلة، بل صعبة لأنها ممارسة متواصلة وهاجس مستمر، خاصة أن الزمن لا يرحم وتأثيرات الطبيعة لها دورها، لذلك فإن برامج الترميم ركزت بشكل أساس على توسعة العملية، بهدف الحفاظ على تلك الهياكل المعمارية قائمة، ناهيك عن مواصلة البحث وسبر المزيد من أسرار المدينة.

سياحة الأثر الجميل

يُجمع كل من زار مدينة وليلي، أو بالأحرى موقعها الأثري، على أنها فاتنة وخلابة ومؤثرة جدا وتترك بصمتها في النفوس، تلك الأحاسيس لا يمكن اكتشافها والشعور بها إلا وأنت تتجول بين تلك الأطلال الجميلة، وتشحذ المخيلة لتعيد بناء معبد جديد وهيكل آخر، وتستضيفك إحدى تلك العائلات الثرية في منازلها الفخمة لتناول وجبة خفيفة من أجل الطريق فقط، وتبتاع بعض الحلي من الساحة العامة، وقبل ذلك أن ترتدي زي العصور الرومانية، وتغيره إلى لباس أمازيغي أصيل، وتنهي الطواف الخيالي بالاستحمام في أحد حماماتها العامة دون نسيان غرفة البخار.
لكن، وليلي ليست مجرد أطلال شاهدة على ما مضى، بل طبيعة خلابة تحيط بالمدينة، والأكيد أن شجرة الزيتون هناك تتذكر كل تلك الأجيال من الناس وقد عبرت أمامها أو استظلت بظلها، وجنت زيتونها، تتذكر جيدا كل عابر سبيل وكل مقيم، وكل الأعراس والحفلات والمناسبات، وتتذكر وفود الزوار الذين قدموا إلى المدينة ليعيشوا لحظة لا تنسى.
تلك الطبيعة التي وحدها تظل شاهدة حية على ما مضى، ما زالت إلى يومنا هذا ترافق السياح في زياراتهم، وتحكي لهم بخفيف أوراق أشجارها بعض القصص، والعشب أيضا يغني بعض الأنشودات، كما تحتفظ السماء بصور كل اللحظات التي كانت قبل قرون طويلة.
كل شيء في وليلي يحيلك على بذخ الحياة وروعة حوار الثقافات وتلاقح الحضارات، والتساكن بين أقوام لا علاقة بينهم سوى الانتماء للإنسانية، وتلك إحدى سمات المغاربة الذين لا يبحثون عن أصلك وفصلك، بقدر اهتمامهم بانتمائك للأرض والتشبث بها ورعايتها وحبها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية