وماذا بعد؟

ينتهي العرض السياسي بإسدال الستار على المشهد الأول بعد أن تم سحب الولاية الخامسة التي ألهبت الشارع الجزائري. مكسب كبير في سياق النضال من أجل استعادة جزائر النور التي ردمت تحت أطنان التراب والروائح العفنة. فقد توصل الحراك الشعبي، بفضل شجاعته وسلميته، إلى إقناع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالعدول عن تقدمه لولاية خامسة، كانت القطرة التي أفاضت الكأس، ضد مؤسسة حاكمة ظلت تتصرف وكأنها في بلاد هي ملكية خاصة لها.
رئيس في حالة مرضية واضحة بعد الجلطة الدماغية التي حدت من قدراته العقلية والجسدية، وجهاز أعلى غريب ظل مصراً، أمام الشعب والعالم، أن الرئيس بخير ويؤدي مهامه على أحسن وجه، لدرجة أن أصبح مقتنعاً بكذبته التي يكون بموجبها الشعب والعالم مخطئاً والعصابة على حق.
وبدا واضحاً أن العصابة لا تملك أي قدر من الذكاء ولو في حده الأدنى، لأن كل ما كانت تقدمه للناس كان يتحول بسرعة إلى سخرية مرة. الغريب أن الجزائر الموصوفة بصلابتها وجديتها الزائدة أصبحت فيها النكتة السياسية الذكية على كل الألسن وفي الوسائط الاجتماعية. النخبة السياسية، بما فيها المعارضة، لم تتمكن من فعل أي شيء ملموس، فقد أحكمت العصابة الغلق وبدأت تشتري الذمم بالتهديد أو بالمال.
حتى اللجنة التي كونت قبل سنوات للاستفسار عن حالة الرئيس الصحية، وطلبت موعداً معه لتتأكد منه أنه هو صاحب ما كان يصدر من قرارات، أهينت وحوصرت فردياً وجماعياً، وأدخل في قائمة البلاك الممنوعة من الظهور في أي قناة وطنية أو خاصة تديرها العصابة. وحتى تكتمل المسرحية الخاصة بسلامة صحة الرئيس، كان يظهر في استقبال الوفود والرؤساء وكأنه في حصص تعذيب حقيقية، يبدو فيها غائباً كلياً وخارج الدائرة، بالخصوص في السنتين الأخيرتين، لا يتكلم إلا قليلاً وبمكبر صوت. في النهاية، أصبحت العصابة هي من يتكلم في مكانه. رسالته الأخيرة، في مادتها الأولى، بينت لمن يقرأها بتمعن كأنه كان سجين العصابة التي ارتضى بها في وقت من الأوقات، لدرجة أن تم تصحير كل شيء ولم يعد بجانب الرئيس وفي محيطه إلا أسماء العصابة الخفي منها والظاهر. هي من يقرر في مكان رئيس لم يعد قادراً على أداء مهامه.

حتى اللجنة التي كونت قبل سنوات للاستفسار عن حالة الرئيس الصحية، وطلبت موعداً معه لتتأكد منه أنه هو صاحب ما كان يصدر من قرارات، أهينت وحوصرت فردياً وجماعياً.

ماذا لو اختار الرئيس وقتها أن يعلن للشعب، الذي كان يعيش المشهد يومياً، عن رغبته في الاستقالة لأسباب صحية وينظم انتخابات رئاسية مسبقة؟ ويهيئ للندوة الوطنية في وقت مريح، وتغيير الدستور؟ للأسف لا شيء من هذا حدث. الدستور غير قبل ذلك بقلـــيل بهدف واحد هو تمديد فترة الحكم من عهدتين إلى الأبدية. اعتداء صارخ على دستور يفترض أن يكون وثيقة حقيقية للسير بالبلاد إلى الأمام، وليــس للعودة بها إلى طغيان الشخص الواحد، العتبة الأولى للديكتاتوريات.
ولأن الرئيس انسحب تقريباً من المشهد، حلت محله دكتاتورية العصابة التي رهنت البلاد وكل مقدراتها بين أيدي مافيا عرت البلاد من كل مقدراتها الماديــة، وأخـــرجت مليارات الدولارات في شكل استثمارات في الخارج، بينما كانت الجزائر تزداد انكساراً.
والقراءة المتأنية للمادة الأولى لرسالة الرئيس تبين ذلك بوضوح، إذ يقول: لا محلَّ لعهدة خامسة، بل إنني لـم أنْوِ قط الإقدام على طلبها حيـث إن حالتي الصحية وسِنّي لا يتيحان لي سوى أن أؤدي الواجب الأخير تجاه الشعب الجزائري، ألا وهو العمل على إرساء أسُس جمهورية جديدة تكون بمثابة إطار للنظام الجزائري الجديد.
فهو ينفي أصلاً أن يكون قد فكر في الترشح لولاية خامسة لظروف صحية؟ إذن من فعل ذلك في مكانه؟ من جمع له الأصوات؟ من رشحه؟ من غيّر سلال كرئيس لحملته الانتخابية، وعوضه بزعلان لإيداع ملف الترشيح في المجلس الدستوري؟ من كان وراء مسرحية من أبأس مسرحيات العصر الحديث في السياسة وتسيير بلد من أربعين مليوناً، ومقدرات ضخمة من نفط وغاز ومعادن كالذهب واليورانيوم، لا نعرف عنها شيئاً ولا من يسيرها ولا أين يذهب مالها؟ كيف اختزلت العصابة تاريخاً نضالياً بكامله واحتكرته لها ولدوائرها؟ ووضعت البلاد كلها بين مخالبها وعفن الضباع؟ كيف انهارت كلياً بلاد وراءها ثورة عريقة خلفت في أثرها بحراً من الدماء وقرابة المليونين من الشهداء ويتمت أكثر خمسة ملايين طفل؟ تحولت فجأة إلى بلاد ميكي يسميها الجزائريون، يعني بالعربي الفصيح إلى مضحكة. وأن الفستي كما يسمي الجزائريون الكذب، أصبح اللغة المتداولة. لم يعد النظام قادراً على التخفي بعد سلسلة الفضائح التي كانت تحاط بالصمت. وبدأت رائحة العفن في كل القطاعات بلا استثناء. كل من يتولى منصباً يدخله وفي رأسه سبل النهب، وكل من يرفض اللعب في ملعب العصابة يطرد بعد تلويثه. أتخيل الآن العصابة ومحيطها من الإداريين والوزراء وهم يهرولون في سباق محموم ضد الساعة. كيف تحولت هذه البلاد العظيمة التي وهبتها الجغرافيا والتاريخ كل شيء جميل، وكل الخيرات، وطبقة مثقفة كان مآلها هو الطرد والقتل والمنافي.

أصبحت الكلمة العليا للعصابة ومن يدين بدينها من القتلة ومهربي الكوكايين والأسلحة وتجار الموت.

أصبحت الكلمة العليا للعصابة ومن يدين بدينها من القتلة ومهربي الكوكايين والأسلحة وتجار الموت. وكأنهم أرادوا وضع اللمسة السحرية على السبعمئة كيلو من الكوكايين، فأضافوا لها كيلو واحداً من فوق 701 لنشم ليس فقط رائحة الكوكايين، ولكن أيضاً سحر ألف ليلة وليلة 1001؟ هربت في حاويات دخلت إلى ميناء وهران بسلام قبل أن يتم فضح كل شيء ويصبح البوشي شخصية الحدث. شخص نكرة كوّن إمبراطورية مالية خرافية بتمويله ثكنات الجيش باللحم البرازيلي، يعلم الله نوعيته، (كتبت عنها في وقتها في «القدس العربي» في علاقتها بفساد النظام). لم تنفع الطفرة النفطية الجزائر كثيراً، بل عممت الفساد في القطاع الاقتصادي. فقد عاشت العصابة على هوامش المشاريع الكبرى التي كلفت أضعاف ما كان يفترض أن تكلفه، لأن نسبة منها كانت تعود إلى جيوبها؟ تصريح الرئيس يؤكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك أننا في جمهورية موز une république bananière ترفع وتذل من تشاء. في الوقت نفسه كان آلاف الشباب يرمون بأنفسهم في بحر لا يشبع. تراجيدية يعرف سرها البحر الأبيض المتوسط وحده، وكأن الجزائر التي خرجت منتصرة على الإرهاب بعد أكثر من 200 ألف ضحية وجدت نفسها بين مخالب مافيا لا هم لها إلا النهب والتيئيس.
في النهاية، مـــن كتب الرســــالة؟ الرئيس أم العصـــابة، لتستمر ســـنة أخرى ترتب فيها شؤونها؟ المكسب كبير، لكن وماذا بعد؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صوت من مراكش:

    اكيد استاذي واسيني ان من كتب الرسالة البينة المعاني هو الشعب

    الجزائري الواعي المتطلع الى المستقبل الى الافضل الى الامل

    تحياتي

  2. يقول مهدي جواد:

    ان بوتفليقة يعيش محنة رئيس الوزراء الايطالي الدو مورو الذي اختطفه المنظمة الارهابية الالوية الحمراء وكانت ترسل رسائل موقعة بأسمه تطالب الحكومة بالتفاوض مع المنظمة رغم انه كان ضد التفاوض مع الارهابيين عندما كان حرا ، فلو قدر لنا ان نرجع ببوتفليقة سنوات الى الوارء الى الفترة التي كان يتمتع بكامل قواه ووضعنا امامه ما يحدث له الان ، اكيد كان سيرفض فالرجل عرف عنه الكبرياء والشموخ ولم يرض بربع رئيس وحاصر المؤسسة العسكرية لكنه انهار امام قسوة المرض فاصبح رهينة في أيدي العصابة كاليتيم على مأدبة اللئام

  3. يقول علي:

    أهم شيء الآن أن يرحل حزب فرنسا المجرم ممثلا في الجنرالات الفسدة والنخب الثقافية المنافقة واللصوص أو السراق الكبار، وأن يعود الجيش والمخابرات وأجهزة الأمن إلى مهامها الأصلية. لا تتركوا الميدان ولا تصدقوا عمر سليمان الجزائري.

    1. يقول عبد الوهاب عليوات:

      لو كان في الجزائر حزب فرنسا فعلا لما سقط الى الأبدا ولاستمر في الحكم الى الابد تماما كما يحدث في دول لا تعرف عن الديمقراطية سوى اسمها ولا يقربها أخد بكلمة..
      حزب فرنسا هو ما تريدون أنتم ادخاله يا سيد علي الى الجزائر من خلال الدفع بها نحو الفراغ المؤسساتي..

  4. يقول عبدالله الفارسي:

    شكرا استاذي الرائع .
    الأوضاع متشابهة تماما في كل الوطن العربي التعيس .

    اللهم احفظ الجزائر وشعبها

  5. يقول سوري:

    صدقت يا استاذ واسيني إنها العصابة كعصابة آل المجرم ابن المجرم بشار الكيماوي
    حذاري من هذه العصابة التي يمكن ان تحول الربيع الجزائري الى حمام دم كما فعل الكمياوي صديق العصابة الحميم

  6. يقول عزالدين:

    لقد قام الرئيس بوتفليقة بوضع الركائز الاولى لهذا النظام بتغييره لدستور واعطاءه صلاحيات ملكية و تمكين افراد عائلته و ابناء مدينته من الحكم.
    لقد كان سكوت الطبقة المثقفة و الطبقة السياسية بتشجيع النظام على المضي قدما في تقنين الفساد و دسترته على جميع الاصعدة.
    اننا نشكر الله على انخفاص اسعار البترول التى كشفت المستور عن تسيير الكارثي للاقتصاد الوطني و لم تعد هناك اموال لشراء ذمم الجزائريين كما فعلوا في السابق.

إشترك في قائمتنا البريدية