وهران مكتبتي

المدن، تلك الأمكنة التي نعتاش داخل أقبيتها، نحيا في دهاليز تاريخها الذي يصبح تاريخنا أيضا، هوية مشتركة بيننا وبينها، نتبادل الأسماء، فتسكننا المدينة تلك التي نعقد معها شراكة خاصة تتجدّد كلما مشينا في شوارعها واحتضنتنا مقاهيها وآوتنا شرفاتها على التاريخ، أو صفحات الكتب التي تحثنا على مشاركتها إيّاها كي تنصرم الذاكرة من الجسد وتتعلق كساعة حائطية على ذاكرة المدينة، هي الكتب التي تتأكد تاريخا جماليا يشهد على علاقة ذات طبيعة خاصة مع المدينة، إنّه زمني الوهراني ذو أوقات جميلة كجبهة البحر والكورنيش يشهد آخر غفواته اليومية، منبعثا على وقع قطيرات بخار الماء المتصاعد من ملوحة تتدفّق من موج مزبد.
المكتبة وطن خاص لا يجد ذوقه سوى من اِلْتذّت أحاسيسه بوصايا الورق. وهران، مدينة ساحلية تقع غرب الجزائر مفتوحة على ثقافات متعدّدة، على البحر المتوسط وعلى التاريخ، احتلها الإسبان والفرنسيس، تفرض على عاشقها طقوسا يتقبلها بجنون، وينتظم على منوالها ليجدها علامات محفورة داخل أمكنة المدينة الذّاكرة الماكثة بين الواقع وتجلّيات الخيال. لم تكن الكتب مجرّد حالة عابرة ضمن ما أقتنيه من وهران، كي تفقد اللحظة الكُتُبِيَة هويتها تحت أكوام المستهلك والعادي، كانت لحظتي وأنا أبحث عن المكتبة ذات نكهة تشبهني وتشبه المدينة، تعرفني كلّما سرت في الشّوارع التي حفظت علاماتها التي تقودني إلى المكتبة.
أراجع وهران هذه الشّهور الأخيرة لدواعٍ طبية، وأثناء مشيي في شارع «مارسو» الذي يتدفّق في «شارع مستغانم» نزولا من محطة القطار، مندهشا للتحوّل الكبير الذي طال المدينة وغيّر الكثير من معالمها التي صنعت لحظتنا المعرفية والجمالية ذات بدايةٍ لثمانينيات القرن المنصرم، وكانت أيضا تكرّس «الباهية» في خيالنا وفي تفاصيل وعينا الوفي للمكان، في غمرة هذا الغياب اللذيد باغتني صوت زوجتي ينبّهني لزاوية تجمّعت فيها كتب فرنسية قديمة bouquin يقوم عليها شيخ كبير، التفتّ صوب الغنيمة، وكم كانت فرحتي كبيرة حينما اقتربت من الشّيخ مستفسرا إذا كانت الكتب للبيع، فردّ بصوت خافت ضعيف: طبعا، توجّهت نحو لوحة متوسّطة الكبر علّقت عليها بعض الكتب، شدّني مباشرة عنوان: مفاتيح للماركسية clefs pour le Marxisme لروجيه غارودي، تناولته وتوجّهت به نحو الشّيخ، أخبرني أنّ الثمن على الصّفحة الأولى، فتح الكتاب وطلب منّي تذكيره به معلّلا ذلك بضعف بصره، دفعت 300 دينار، مسكت الكتاب وبدأت بتصفّحه، سنة النشر 1977، تهجّيت الجملة الأولى فيه: «الوعي وفكر الإنسان ليسا خارج التاريخ، إنّهما في داخله» التفت إلى زوجتي وابني وابنتي، ابتسمت في وجوههم معلنا إنّ هذا يكفيني من الرّحلة، صدفة كنت مرتديا كنزة خفيفة ووشاحا حمراوين، كتمت ابتسامة، وتابعت سيري أكتشف وهران التي تحوّلت رغما عنها.
بدايات الثمانينيات، مفتتح السر الوهراني، شارع العربي بن مهيدي يمتد كما لو كانت رجلاي صغيرتين لا تكاد تُحسب خطواتهما لطول الشّارع، كنت أشعر شوارع وهران، هكذا، لأنّي لم أملّ يوما مقاهيها ولا مكتباتها، فرح الجلوس إلى طاولات مقهى «السّرور» متعة لا تضاهيها كل المتع الأخرى، كانت مأوى الطلبة وأعضاء فرقة يبدو على أحدهم من خلال قصّة شعره «الراستا» أنّهم من عشاق «بوب مارلي» الذين ربّما عشقوا هم الآخرون شارع بن مهيدي، كانت له لذّة خاصّة خصوصا آخر العشيّة، حيث صدى السيارات وانبعاث منبّهاتها وامتصاص الشّارع لها، كل ذلك يبدو كما لو إنّه يردّد أغنية أسطورية في مسامع العابرين إلى مَلاحات وهران.
لن أنسى وهران التي كانت مكتبتي، أنخرط هابطا في شارع العربي بن مهيدي، الزمن 1982، في «الأقواس» كانت بداية المحبة، مكتبة صغيرة يرقد على رفوفها كتاب من جزأين حول «الماركسية» تمتد يداي كما لو إنّها تنطلق نحو سرّ وجودي، أجمع إلى عيني وعقلي تلك التحفة، أحاسب وأسير صوبها ممتزجا بأنانية الطفولة حين لا تشارك أحدا بلعبها مستحوذة على ما لها وما ليس لها، لكن كنت أشعر المدينة تقاسمني حبّي للكتب، فأحببتها وشاركتها متعي الكتبية. مكتبة صغيرة حد الضيق الذي يوصف به المكان، لكنّها بوسع امتداد التّاريخ والزّمن في شرايين الوجود على الأرض، كانت تستقر في الممر الرّابط بين ميدان المحكمة وشارع الأمير عبد القادر، أذكر أنّني كنت ألمح كتاب «اللاعب» لدستويفسكي على الواجهة لكن تهاونت في اقتنائه، ولمّا عزمت الشّراء كانت يد قارئ آخر قد امتدت له.

لم تكن الكتب مجرّد حالة عابرة ضمن ما أقتنيه من وهران، كي تفقد اللحظة الكُتُبِيَة هويتها تحت أكوام المستهلك والعادي، كانت لحظتي وأنا أبحث عن المكتبة ذات نكهة تشبهني وتشبه المدينة، تعرفني كلّما سرت في الشّوارع التي حفظت علاماتها التي تقودني إلى المكتبة.

آخر شارع بن مهيدي وبداية «ميرامار» كانت هناك مكتبة أيضا، كنت أزورها في المساءات عادة، أما وسط شارع بن مهيدي، صعودا من أسفله جهة ميرامار على الجانب الأيمن وفي بداية أحد الالتواءات منه صوب «لاباستي» كانت مكتبة «بن عبد الله» في أعلى جدرانها ثُبِّتَت مسمّعات ينبعث منها صوت أحمد وهبي مجلّلا بأنغام الفن البَدْوي، خافتا يمسّد على وجدان الزّائر وعلى فضاء المكتبة أيضا. من مكتبة كانت في شارع الأمير عبد القادر اقتنيت مجموعة غير كاملة لمؤلفات مصطفى محمود، ومنه لمّا انحرف يمينا في شبكة الالتواءات التي تقود صوب «شارع السّلام» كانت هناك مكتبة صاحبتها فرنسية، تعج بالقرّاء وعاشقي الكتب الفرنسية ابتعت منها «سعادة وحضارة» لجون كازنوف. «البوكيناج» لم يكن ترفا، القراءة كانت مهنة على حد تعبير أشهر قارئ فرنسي بيرنار بيفو، كانت عشقا يحايث عشق المعرفة ونبل الثقافة، لهذا تنبثق المكتبة في خيالي قبل أن تنبثق في المدينة، فأشعرني أقترح على وهران تلك الفضاءات التي يجب أن تنوجد بها كي تحافظ على هويتها كمدينة للحب، للكتاب وللإنسان.
في هرج «المدينة الجديدة» تنتشر فوق أرضيتها الكتب القديمة وبعضها جديد، باعَتُها لا علاقة لهم بها سوى ما تدرّه عليهم من ربح، لم يكن يهمّني الثمن بقدر ما كان يلح عليّ ما تجود به «المدينة الجديدة» من عناوين نادرة اقتناها عشّاق الكتب في زمن سابق، ورفض المعنى أن يبقى حبيس الغياب فأصرَّ على أن ينزل من علياء الرف إلى بساطة الأرض الصّديقة.

كُتُبٌ لمّا أعثر على بغيتي فيها يكون ذلك اليوم أجمل من كل لحظات العمر، فأثني ركبتي وأنحدر متكئا عليهما أتتبع العناوين وأشتمّ رائحة الورق وقدامة التّجربة التي تحكيها بعض ألوان الصّفحات الحائلة، ولا تكتمل لذّة لقاء الكتب في المدينة الجديدة سوى بشطيرة «كرنتيكا» أو مطلوع ساخن مطلي بالجبنة وكأس «رايب» في أحد محلات الشّوارع التي تشكل فسيفساء الفرح في «لَمْدِينْ جْدِيدَة» هكذا ينطقها الوهرانيون. في أعالي وهران الجميلة في حي مارافال، صيف 1982 ومن مكتبة متواضعة لا يدل شيء على إنّها كذلك سوى رفوف مبعثرة على جدران عارية وكتب بالكاد نسخة أو نسختين من كل منها، اشتريت كتاب «اليهودي اللايهودي» لإسحاق دويتشر وكتاب جماعي حول «علي بن أبي طالب» كان صيفا ممتعا، أذكر أنّ الشقة التي أجّرناها كانت لأحد الأساتذة العرب المتعاونين.
أذكر في بداية التسعينيات كنت رفقة أحد الأصدقاء في وهران، وكان يبحث عن كتاب «الحرام» لعالمة الاجتماع المغريبة فاطمة المرنيسي، وأصرّ على الدخول إلى مكتبة أسفل قليلا «سوق قرقيطة» هبوطا إلى «بن مهيدي» «قرقيطة» الذي التهمه حريق مهول في إحدى عشيّات وهران الثمانينيات، أصحاب المكتبة يبدو عليهم مظهر السلفية، فما إن ذكر العنوان وصاحبته حتى بدا شيء من التشنج على الشّيخ وردّ قائلا: لا أعرف لا المرنيسي ولا حرامها، ما أن تجاوزت خطواتنا عتبة المحل حتى انفجرنا بالضحك.
ديوان المطبوعات الجامعية في شارع العربي بن مهيدي كان يزوّدنا أيضا بالكتب الفكرية، ولست أذكر مما اقتنيت منه في التسعينيات سوى كتاب «تجليات مشروع البعث والانكسار في الشعر العربي المعاصر» لآمنة بلعلى.
مؤخّرا حوالي 2016، كنت ضيفا على برنامج «ليلة الشعراء» رفقة الصديق عبد القادر رابحي، صادفت معرضا للكتب في الكاتدرائية، وكانت غنيمتي منه كتاب «ألا تأمل في التخلّص من الكتب» لجون كلود كاريير محاورا أمبيرتو إيكو. وهران، مدينتي، شهدت تحوّلا كبيرا أضاع الكثير من معالمها المكتبية التي تحوّلت إلى محلات استهلاكية فرضها زمن «الشوارما» و«الطاكوس» البطن بدل العقل.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جواد:

    كان والدي و أنا طفل يصطحبني معه احيانا الى ” البْلاد” كما يصف الوهارنه وسط المدينة، و كان يبدو لي من بناياته و عماراته و مظهر الناس في شوارعه اروبيا و ” غريبا” ، و حينما كنت اذهب مع جدتي الى سوق ” المْدينة الجْديدة” اسعد و انتشي لمنظر الناس و للنساء خاصة بالملحفة و احيانا ب ” العٔجار”!

    كان يحدث معي هذا و أنا طفل لا زلت في الابتدائي ، و العجيب أن هذا الشعور لا زال يلازمني الى اليوم ، انتشي و استذكر جدتي _ رحمها الله _ كلما عرجت على المدينة الجديدة ، و يختفي هذا الشعور اذا ما تواجدت بشوارع ” البلاد ” !

    وهران لها اسرار لا يدركها الا من استمتع في طفولته باجوائها و مناظرها!!
    شكرا لك استاذ بن جلولي على إيقاظ مشاعر الصبا فينا ..

  2. يقول Alidzdzdz:

    يا استاذي الفاضل ,لقد قدر الله لي ان اسيح في ارض الله الواسعة و مما اكثر ما اثار في النفس من شجون هو افتقاد جل مدننا للنسق الجمالي الذي تجده في مدن البلاد الاخرى. ف”المدينة جديدة” كانت و لا زالت بفوضاها العارمة و قلة الامن فيها , و واجة البحر كانت دائما فاقدة لشاعريتها لكثرة المتسكعين فيها و شارع الاقواس ليس بالاناقة التي يريد ان يوحي بها للمارة .
    انا لا اتحامل على احد و لكنها حقيقة مدننا و هي تعكس حقيقتنا و هذا لا يخص مدينة الباهية كما يحلو للبعض تسميتها جزافا و لكنها حقيقة كل مدننا في الجزائر و في الوطن العربي على امتداده . فالدار البيضاء في المغرب ليست احسن حالا و لا تونس و لا طرابلس و لا دمشق بل حتى القاهرة فاجئتني و فجعتني فنهرها الخالد لم يجعل مني مسافرا زاده الخيال.
    إن انعدام ذوقنا الجمالي جعلنا نفقد رقة الإحساس و طيبة الطبع واناقة الكلمة

  3. يقول احمد عليلو:

    شكرا استاذ جلولي لقد انعشت ذاكرتي وعدت بي الى الثمانينات حين كنت ازور الباهية قادما اليها من المغرب وكان هاجسي هو زيارة مكتباتها واكشاكها والتعرف على ادباءها من خلال انتاجاتهم الأدبية والفكرية . اما عن كتاب فاطمة المرنيسي فأعتقد انك تقصد كتاب الحريم السياسي .وشكرا مرة اخرى

إشترك في قائمتنا البريدية