لندن – “القدس العربي”:
نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” تقريرا حاولت فيه تتبع الأيام الأخيرة لزعيم مجموعة فاغنر للمرتزقة قبل مقتله في تحطم طائرة فوق موسكو يوم الأربعاء. وقالت إن يفغيني بريغوجين كان هاربا ويحاول يائسا التمسك بإمبراطوريته العسكرية والتجارية وكان بحاجة “للمزيد من الذهب”.
وفي التقرير الذي أعده بينوا فوكون ودرو هنيشو وجو باركنسون ونيكولاس باريو قالوا إن بريغوجين قضى أيامه الأخيرة يخطط للمستقبل. وحطت طائرته الخاصة الجمعة الماضية في جمهورية أفريقيا الوسطى، في محاولة منه للحفاظ على واحدة من الدول العميلة له. ونشرت إمبراطوريته حوالي 5.000 مقاتل في أنحاء القارة. وأخبر بريغوجين، الرئيس فوستين- أرشانج تواديرا في لقاء معه بقصره الواقع على النهر أن محاولة التمرد الفاشلة في حزيران/يونيو لن تمنعه عن إرسال المزيد من المقاتلين والاستثمارات إلى دولته، حسب أشخاص على معرفة باللقاء. وبعد فترة قصيرة هبطت مروحية لفاغنر وعليها مجموعة من قادة الدعم السريع في السودان، وهي الميليشيا شبه العسكرية التي تعتمد على مرتزقة فاغنر في حربها ضد القوات الحكومية. وسافروا من إقليم دار فور المضطرب إلى بانغي وحملوا معهم هدية لبريغوجين، الذي قدم لهم صواريخ أرض جو، والهدية هي عبارة عن سبائك ذهب من منجم عملت قوات فاغنر على تأمينه في غرب السودان.
وعلى الجانب الآخر من الصحراء، كان خصوم بريغوجين في وزارة الدفاع الروسية يحملون رسالة مناقسة لعملاء فاغنر في ليبيا. ويقوم الكرملين بالسيطرة الرسمية على شبكة من الشركات التي أقلقت طموحاتها الرئيس فلاديمير بوتين. وقاد الوفد نائب وزير الدفاع يونس بيك ييفكيروف، الرجل الذي أهانه بريغوجين ووبخه لاستخدامه كلمة “أنت” عندما سيطرت فاغنر على مقر القيادة العسكرية الجنوبية في روستوف، قرب الحدود مع أوكرانيا في 24 حزيران/يونيو. وعاد بريغوجين إلى روسيا في نفس الوقت حيث توقف في مالي ومر في أجواء عدد من الدول العميلة التي كان يحاول إنقاذها من الوقوع في قبضة الكرملين.
وعندما سقطت طائرته الخاصة “إمبراير ليغاسي 600” فوق موسكو، التي كان عليها مع عدد من قادته البارزين يوم الأربعاء وبمسافة لا تبعد سوى 40 ميلا عن مقرات بوتين على البحيرة، كان التحطم بمثابة نهاية للتنافس الهادئ الجاري منذ شهرين بين الكرملين والأوليغارش الذين كانوا يحاولون الحصول على التأثير في دول تولت فاغنر المقاولات نيابة عنهم. وكان بريغوجسن وطوال السنوات الماضية هاربا، حيث غير مظهره وارتدى زي ضابط عربي وتزود بالوقود من مجموعة قليلة من المطارات التي منحته إذنا لدخولها.
ولدى فاغنر مجموعة من الشركات الوهمية التي ارتبطت بعمليات المرتزقة، مع أنه وسع من عملياته في نهاية حياته، إلى التمويل والإنشاءات والإمدادات واللوجيستك والمناجم والمصادر الطبيعية، وحتى شركة سباق الخيول الأصيلة “سبورت هورسيز مانجمنت” والتي تديرها ابنته بولينا. وجاء دخله من صادرات الذهب السوداني إلى روسيا والماس من جمهورية أفريقيا الوسطى إلى الإمارات العربية المتحدة والصين، حسبما يقول المسؤولون الأفارقة والغربيون. وتترك وفاته مستقبل هذه الشركات مجهولا، وسط محاولات الكرملين تأميم شبكة وهمية ظلت تابعة لسلطة بريغوجين. وفي يوم الخميس وصف بوتين زعيم فاغنر بأنه رجل عاش قصة معقدة وقدم مساهمات لروسيا و”ارتكب أخطاء خطيرة في حياته” و”كل ما أعرفه أنه عاد من أفريقيا يوم أمس”.
ويعلق ديفيد لويس من جامعة إكستر البريطانية “ستحاول الفصائل المختلفة المرتبطة بالجيش السيطرة على العقود التجارية المربحة وبناء قوات وكيلة” و”كان بريغوجين ماهرا في إدارة الشبكات العابرة للدولة لكنه لم يكن شخصا لا غنى عنه”. واعتمدت دول مثل سوريا ومالي على مرتزقته، وعرض قبل أيام من مقتله، خدماته على النخبة العسكرية بالنيجر التي سيطرت على الحكم في نهاية الشهر الماضي. ومع ذلك فشركات المرتزقة التابعة للاستخبارات العسكرية الروسية تتنافس من أجل السيطرة على عقود فاغنر.
وأخبر بوتين رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، تواديرا أن الوقت قد حان لكي يبعد نفسه عن بريغوجين. وعندما شارك تواديرا في قمة سانت بطرسبرغ الشهر الماضي امتنع عن التقاط سيلفي مع أمير الحرب الروسي. ومن جانبه قلل المجرم السابق وبطريقته الساخرة من نهايته حيث قال “سنذهب كلنا إلى الجحيم” و”في الجحيم سنكون الأفضل”، حسب فيديو نشره “غراي زون” على تطبيق تلغرام وهو الموقع الذي ينشر البيانات الرسمية لفاغنر.
واستندت الصحيفة في تتبعها لأيام بريغوجين الأخيرة على لقاء مع مسؤولين سياسيين وأمنين أفارقة ومنشقين عن فاغنر ورسائل مشفرة وبيانات الرحلات الجوية. وتم تأكيد رحلات بريغوجين بين روسيا وأفريقيا من قبل غليب إيروسوف، الضابط الجوي السابق.
وظلت معظم تعاملات بريغوجين محاطة بالسرية ومغلفة بنظام غامض سمح للكرملين بإبعاد نفسه عن فاغنر وزيادة التأثير الروسي وإثارة الاحتجاجات المضادة للغرب في أفريقيا والتحايل على العقوبات الغربية. وتم عقد معظم الصفقات من خلال المصافحات والتي لم يعرف تفاصيلها إلا من قبل مجموعة مقربة مثل ديمتري أوتكين، المسؤول السابق في المخابرات العسكرية الذي مات في حادث يوم الأربعاء.
وعادة ما دفع بريغوجين رواتب آلاف من العاملين معه، من الطباخين والمخربين على منصات التواصل والمقاتلين والجيولوجيين نقدا ومن كيس بلاستيكي يحمل بريغوجين نفسه. ومنذ تمرد حزيران/يونيو يقوم الكرملين بمحاولات للسيطرة على مملكة بريغوجين، حيث أرسل وزير الدفاع وخصم بريغوجين، سيرغي شويغو الوفود إلى الدول التي تعلمها بضرورة التعامل المباشر مع الدولة الروسية. لكن زعيم فاغنر رفض الخروج بهدوء وقام برحلات للشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا من أجل الحفاظ على صلاته. وأصدر فيديو عرض فيه المساعدة على قادة النيجر، وكذا شريط فيديو من مالي تحدث فيه عن توسيع التأثير الروسي في القارة.
وتعود أمير الحرب الذي فرضت أكثر من 30 دولة عقوبات عليه على الفرار. وسافر في طائرة عادة ما أغلقت أجهزة الاستقبال والإرسال لتجنب الأجواء التي يمكن للحكومات الموالية للغرب من خلالها الحصول على 10 ملايين دولار وضعتها وزارة الخارجية الأمريكية مقابل من يدلي بمعلومات عن الرجل المتهم بالتدخل في انتخابات 2016. وأجبر مرة على الهبوط المفاجئ وسط الصحراء بعد أن نفذ الوقود في طائرته، وأدار المفاوضات في مدرج المطارات حتى يستطيع الهرب سريعا. وسافر مستخدما جوازات مزورة وأرسل خبراء من فاغنر للتعرف على البرامج التجسسية، وكان يفضل منصات التواصل للتواصل مع أتباعه. وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي وصل بريغوجين إلى شرق ليبيا للقاء أمير الحرب خليفة حفتر. وظهر بريغوجين بالزي العسكري ونظارات شمسية وقبعة واسعة ولحية مستعارة. وكان يحيط به ستة من حراسه، لدرجة أن السكان ظنوا أنه زعيم مجموعة سلفية متشددة.
وقال ليبي “كل من رآه ظن أنه سلفي”. وبعد التقاط الصور صرخ على حفتر وطلب منه 200 مليون دولار مقابل حماية مناطق أمير الحرب الليبي، بما فيها آبار النفط. وكان لدى بريغوجين اعتقاد أن قوات حفتر مخترقة من المخابرات الفرنسية وسي آي إيه. وحتى الزي الليبي الذي ارتداه في رحلاته إلى ليبيا صنع في سوريا للتأكد من عدم وجود أجهزة تنصت عليه.
وبعد التمرد قرر بوتين قتله، لكن رئيس بيلاروسيا الكسندر لوكاشينكو اتصل مع الزعيم الروسي وأقنعه بالتخلي عن قراره وعرض استقبال أمير الحرب وقواته في بيلاروسيا. وبدأ الكرملين بالسيطرة على شبكة بريغوجين بعد التمرد، وقام عملاء من وكالة الاستخبارات الفدرالية أو أف أس بي بمداهمة برج فاغنر الزجاجي في سانت بطرسبرغ للبحث عن أدلة ضد بريغوجين. وصادرت قوات حفظ النظام أجهزة كمبيوتر وخوادم من باتريوت ميديا غروب التابعة له، والمسؤولة عن التدخل في انتخابات 2016 الرئاسية الأمريكية. كما وحجبت مواقع مؤيدة لفاغنر وتمت مداهمة شركات تابعة له حيث وجدت المخابرات فيها مسدسات وجوازات مزورة وحوالي 48 مليون دولار أمريكي.
ومع ذلك كان بريغوجين يأمل بإنقاذ مصالحه في أفريقيا والشرق الأوسط. وأرسل مجموعة من المقاتلين إلى جمهورية أفريقيا الوسطى لحماية الاستفتاء الذي يسمح للرئيس بالبقاء لولاية ثالثة، وأرسلت وحدة إلى الحدود مع الكونغو. وفي تصريحات لمؤسسة كاميرونية “أفريك ميديا” قال “نحن لا ننسحب بل ومستعدون للمضي قدما وزيادة فرقنا المتعددة”. وحاول بريغوجين الشهر الماضي لقاء قادة أفارقة حضروا القمة الأفريقية في سانت بطرسبرغ، لكنه لم يظهر مع أي منهم.
وكان بريغوجين قلقا من نقل العمليات في أفريقيا للمخابرات العسكرية. وقال مسؤول استخبارات نيجيري إن موت بريغوجين “لن يغير أي شيء” و”لا تزال روسيا هناك، وعندما يذهب زعيم فاغنر فسيظلون ناشطين في أفريقيا، وربما تقوت يد الكرملين الآن”. وكانت الرحلة الأخيرة لبانغي حيث وافق تواديرا ومدير استخباراته وازنيت لوينغويسارا على مقابلته بالقصر الرئاسي. وتعهد بريغوجين بزيادة وجود شركته في البلاد وتعزيز الأمن وزيادة الاستثمارات الزراعية، حسب شخص أحيط بما جرى في اللقاء.
وفي اليوم التالي رحب بوفد قوات الدعم السريع من السودان حيث قدم له صندوقا خشبيا فيه سبائك ذهب من منجم سونغو بدارفور، وقال أمير الحرب “أريد المزيد من الذهب”. وقال معلقا على الحرب الدائرة في السودان “سأتأكد من هزيمتكم لهم”، أي قوات الحكومة.