ويبقى السؤال كم مرة ومن قتل يعقوب أبو القيعان؟

حجم الخط
1

قد تجدون فيها علاقة بما كتبت وقد لا، ففي كتابه «الفاشية، مقدمة قصيرة جدًا» كتب مؤلفه كيفن باسمور، إن الفيلسوف والكاتب الإسباني خوسيه أورتيغا جاسيت كان قد عرّف الفاشية عام 1927 هكذا: للفاشية ملامح غامضة لأنها تحوي أكثر المضامين تضادًا؛ فهي تؤكد على السلطوية وتؤسس للثورة، تحارب الديمقراطية المعاصرة، ومن ناحية أخرى لا تؤمن بالعودة لأي حكم سابق، ويبدو أنها تقدم نفسها باعتبارها صورة للدولة القوية بينما تستخدم أكثر الوسائل قدرة على تفكيكها؛ وكأن الفاشية فصيل هدام أو جماعة سرية؛ وأيا كانت طريقة تناولنا للفاشية فسنجد أنها تمثل الشيء ونقيضه في الوقت نفسه.
وبعد.. ما يجري على الساحة السياسية الداخلية الإسرائيلية يصح كمادة لإعداد واحد من مسلسلات الإثارة التي تنتجها شركة «نتفلكس» العالمية؛ وتدمج في حلقاتها كثيرًا من وقائع الحياة وبعض الخيال، حيث تبقى خواتيمها، دائمًا، محكومة بما يختاره المؤلف والمخرج وشركة الإنتاج، أي رأس المال المستفيد، وجمهور المتلقين في واقعنا الآدمي «السائل».
لا يلاحظ الإنسان العادي كمية المعلومات التي تُطيّر في فضاءاته، بل يتلقاها بإدمان ويمتص لحاءاتها على مهل وبخبل أحيانًا؛ ولا يُسأل، في هذه الزحمة، مَن وراء هذه الأخبار أو النظريات أو الكشوفات، وما الغاية منها؟ أو من المستفيد ومن المتضرر من نشرها في تلك اللحظة؟ وما إلى ذلك من أسئلة تخبئ الإجابات عليها أسرار تفجيرها وتداعياته، لاسيما ما يعتبر منها سبقا إخباريا صاخبا ولافتا، عرف مُورده كيف «يخرجه» بعناية وبدقة وبمهنية كافية، ليصطاد فرائسه من الناس، ويحقق ما رمت الحبكة «النتفلكسية» إنجازه.
اختار رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن يزور بلدة بيت شيمش القريبة من أورشليم، ليعلن منها، مساء يوم الاثنين المنصرم، في مؤتمر صحافي، يذاع في ساعة ذهبية، وفق قاموس الإعلان العصري، تفاصيل قرار الحكومة الاسرائيلية القاضي بإغلاق بعض البلدات المصنفة «بالحمراء» في معرض الحرب على ازدياد أعداد المصابين بفيروس كورونا، وما حصده من أرواح بين المواطنين. شاهدنا في ذلك المساء مسرحية أداها ممثل بارع واحد؛ لكنها كانت متكاملة العناصر ومحكمة الأهداف؛ وهي بدون شك ستصبح بعد الكشف عما حصل وراء كواليسها، حدثًا مفصليًا قد يحسم بواسطته نتنياهو شكل نظام الحكم في الدولة، خاصة إذا مكّنته توابعها، كما يريد هو ويخطط، من التخلص من «اعدائه» في جهازي النيابة العامة والشرطة، وطي صفحة العلاقة التاريخية، التي رسمت حدود صلاحيات ذينك الجهازين مع مؤسسة الحكومة ومع رئيسها في إسرائيل.

حاول نتنياهو ورجالاته طيلة السنوات الأخيرة، أن يزعزعوا مصداقية المحققين، ويحاولون، بالترغيب وبالتهديد، استمالة الشهود ضده

كان نتنياهو يعلم أن عملية كنس جميع «المتمردين» على سلطانه من تلك الاجهزة، لن تكون سهلة، إلا إذا نجح بتقديم الدليل على صحة ما ادعاه، منذ بدأت إجراءات التحقيق معه بشبهات الفساد والرشوة، وإصراره على أنه ضحية مستهدفة من قبل بعض القوى التي تعارض حكمه، ومن وكلاء تلك القوى المزروعة في بعض أجهزة الدولة، وعلى رأسهم المستشار القضائي للحكومة، افيحاي مندلبليط، والنائب العام، شاي نيتسان، وقائد الشرطة العام روني الشيخ، وإلى جانبهم بعض المحققين والإعلاميين المغرضين.
لقد حاول نتنياهو ورجالاته طيلة السنوات الأخيرة، أن يزعزعوا مصداقية المحققين، وادعوا أن أولئك يفبركون البيّنات، ويحاولون، بالترغيب وبالتهديد، استمالة الشهود ضده؛ ورغم ما بذله، شخصيًا وبمساعدة طواقم كبيرة من الخبراء والمستشارين والإعلاميين والسياسيين، لم ينجح بمسعاه، بل وجد نفسه متهما بعدة تهم جنائية خطيرة في ثلاث لوائح اتهام مازالت تنتظره في أروقة المحاكم. لم ولن ييأس نتنياهو من محاولاته التملص من مواجهة القضاء، أو مواجهته في ظروف مريحة تؤمّن له النجاة والبقاء على رأس الحكم؛ فهو، السياسي المحنك وابن المؤرخ والتجارب، يعرف ويحس أن «الدولة» صارت قاب لقمة بين فكيه، ولذلك نجده يجند، في سبيل تذليل ما بقي من عقبات في طريق التهامها، ادعاءً يعلن بموجبه أنه يحترم القضاء، ولا يخشى محاكم إسرائيل؛ لكنه يؤكد، في الوقت نفسه، على كونه ضحية مؤامرة حاكتها المؤسسة نفسها والأشخاص نفسهم الذين ظلموا «مواطنًا إسرائيليًا» بريئًا وحولوه من ضحية إلى إرهابي؛ فيعقوب أبو القيعان، هكذا يعترف نتنياهو بسهولة، لم يقم بعملية دهس إرهابية، كما ادعى ضده قائد الشرطة العام روني الشيخ، ووافقه في ذلك الادعاء المفبرك المدعي العام نيتسان وغيرهما من قادة في تينك المؤسستين. لم ينس نتنياهو موضوع مؤتمره الصحافي، لكنه تعمّد، كديماغوغي محترف في اقتناص الفرص، وفي استضباع عامة الناس، تحويل المشهد إلى منصة قرأ منها لائحة اتهام خطيرة، كان قد أعدها ضد أعدائه في نيابة الدولة ووزارة الشرطة، فاتهمهم بالتآمر عليه، مؤكدًا على أن التحقيقات ضده كانت «تحقيقات سياسية، وكانت ملوثة منذ بداياتها، واستهدفت حياكة ملفات، حيث كان الهدف من ورائها إسقاط رئيس حكومة من منصبه»؛ فقد شاهدنا أمس، هكذا أعلن نتنياهو أمام مواطني الدولة، «أنهم يفبركون التحقيقات، ويقبرون التحقيقات ويتصارعون مع بعضهم من أجل أهداف سياسية». كم كان الكلام من فمه نزقًا وغريبًا ومستفزًا وكان خاليًا من أي صدق إنساني؛ فما قاله كحقيقة اكتشفها «أمس» فقط، قلناه عن وجع، نحن المواطنين العرب، باسم عشرات الضحايا الذين سقطوا بنيران شرطته هدرًا، وفُبركت بعدها ملفات قاتليهم، وأُغلقت؛ ورفض، هو ومن قبله من ساسة الدولة ومسؤوليها الأمنيين، سماع أنين دمائهم ونحيب أيتامهم وأمهاتهم وزوجاتهم الثكالى. عن أي أمس تحدث نتنياهو في مؤتمره الصحافي؟
صانع أمس/مستقبل نتنياهو، في هذه الجولة، كان الصحافي عميت سيغال الذي نشر، في القناة 12 العبرية، يومًا قبل انعقاد مؤتمر نتنياهو الصحافي خبرًا – قنبلة كما وصفه نتنياهو في تغريدة نشرها تعقيبًا مباشرًا على الخبر – ومفاده أن النيابة العامة ومحققين في شرطة اسرائيل، قاموا بفبركة ملفات ضد نتنياهو، واسكتوا، فيما بعد، من سعى، من داخل تلك الأجهزة، إلى فضح الوقائع على حقيقتها؛ ثم أضاف سيغال، بذكاء وفي سبيل تعزيز ادعائه المذكور، أن هذه الفبركة لم تكن الأولى، فقد سبقتها أخريات، كتلك التي رتبتها، العناصر نفسها المتورطة ضد نتنياهو، في حادثة قتل المربي يعقوب ابو القيعان، ابن القرية البدوية المهدومة، في مطلع عام 2017، أم الحيران؛ حيث كانت لدى الشرطة بينات كافية تثبت أن المربي ابو القيعان وقع ضحية لألاعيب عناصر شرطة إسرائيل، ولم يكن مخربًا ومنفذًا لعملية دهس إرهابية، كما ادعى عليه قائد الشرطة روني الشيح، في الليلة نفسها، وساند كذبته مباشرة المدعي العام شاي نيتسان، بهدف تغطيتهما على جريمة نفذها بعض عناصر الشرطة، حين شاركوا في عملية قتل أبو القيعان، ولم يسعفوه في الموقع، بل تركوه ينزف حتى فارق الحياة؛ ثم فبركوا البينات كي لا يُكتشفوا، وكي لا يوفروا، من خلال اعترافهم بالذنب، مادة للهجوم عليهم من قبل نتنياهو الذي كان في حالة حرب معهم.
لا أعرف كم منكم يعرف من هو الصحافي عميت سيغال، ولا أعرف لماذا قرر تفجير قنبلته في هذا التوقيت بالذات؟ لكنه عمليًا زوّد نتنياهو في هذه الفترة الحرجة بمادة سرعان ما حوّلها نتنياهو إلى سلاح ما فتئ يستعمله بكل مناسبة، ويطالب، بناءً على ما اكتشفه بالأمس فقط، بإقامة لجنة تحقيق رسمية تناط بها مهمة إظهار «الحقيقة» والتحقيق مع روني الشيخ وغيره من المسؤولين الكبار. ويلاحظ أن نتنياهو، الضحية، كان قد كتب مباشرة في تعقيبه على «قنبلة» سيغال: «مفزع، الليلة ألقى سيغال قنبلة نووية، وبرهن من خلال مراسلات داخلية بين مسؤولين من الشرطة ومسؤولين من النيابة، كيف حاكوا لرئيس الحكومة ملفات». ثم أضاف صورة وكتب عليها «ليحقق مع المحققين، فالليلة أثبت للجميع بأن جميع الملفات ضد رئيس الحكومة نتنياهو مفبركة». لم يذكر نتنياهو في هذا التعقيب قضية أم الحيران ومقتل المربي يعقوب أبوالقيعان، بينما حولها في اليوم التالي إلى الحدث الدرامي الأساسي، فأعلن في مؤتمره الصحافي، أنه قد سأل الشيخ ثلاث مرات، ليتأكد من طبيعة الحادث، وفي جميعها أكد له الشيخ أن عملية الدهس كانت إرهابية.
لقد توقف نتنياهو بعد هذا الكشف هنيهة، وطلب، بحركة ممثل حذق وقبل أن يفصح عن باقي وجعه كضحية، الاعتذار باسمه «على مقتل والد عائلة أبوالقيعان، وعلى أنهم قالوا عنه مخربًا. فأمس تبين أنه ليس مخربًا، وأمس تبين أن مسؤولين كبارا في النيابة العامة والشرطة، حوّلوه إلى مخرب، كي يحموا أنفسهم ويؤذوني». إقرأوا جيدًا.. فقد تآمر روني الشيخ وشاي نيتسان وأعلنا أن يعقوب أبوالقيعان، قبل ثلاثة أعوام، مخربًا كي يوذيا بنيامين نتنياهو.. فهو أيضا ضحيّتهما تمامًا كما كان ذلك البدوي النبيل ضحية.
هل من عاقل سوي يقبل هذه الحكاية؟
كل التفاصيل التي كشفت عن ممارسات من فبركوا ملف مقتل أبي القيعان، ومن أخفوا تقارير «الشاباك» التي نفى معدّوها أن أبا القيعان قام بتنفيذ عملية إرهابية، وشهادات من أطلق النار وغيرها، كلّها تؤكد ما عرفناه وما حاول في تلك الليلة الحمراء أن يصرخ به كثيرون كانوا هناك، وبينهم من كاد أن يصبح الضحية الثانية في تلك الليلة، النائب أيمن عودة، الذي أصيب بعيار في رأسه. فما جرى هناك كانت عربدة عصابة مجرمة، غطت على موبقاتها عصابة أخرى مجرمة، وجميعهم عملوا وسيعملون في إمرة عصابة أخرى. فإلى من أكبر بنتنياهو اعتذاره، وإلى من قدّر مهنية الصحافي سيغال، أقول لا تفتشوا عن بارقة أمل لديهم، فالمقبل منهم سيكون أفظع. ويبقى السؤال من قتل يعقوب أبوالقيعان؟
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول كمال - نيويورك:

    وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ

إشترك في قائمتنا البريدية