ربما تسهم مقابلة ياسر عبد ربه، التي أجراها طاهر بركة أخيراً لقناة «العربية»، في ملء فراغ ما في الذاكرة السياسية الفلسطينية، خصوصاً لناحية بعض مجريات «أيلول الأسود»، ومن ثم الحرب الأهلية في لبنان، وطرافة موقف الزعيم الراحل ياسر عرفات، عندما سأله حافظ الأسد بُعيد اغتياله كمال جنبلاط، من يعتقد أن يكون وراء الاغتيال، فحاول عرفات النجاة من حرج السؤال بإلقاء مسؤولية الاغتيال على إسرائيل، ليباغته الأسد فوراً بسؤال «ولماذا؟»، فيرتجل عرفات جواباً يقول إنه يعرف أن الزاوية التي حدث فيها الاغتيال لا يتمكن منها إلا إسرائيل!
وبعد شهادته عمّا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان والانشقاق في «فتح» وكيف طرد عرفات من دمشق، ينقل عبد ربه تجربة الفلسطينيين المؤلمة والحرجة قبل وبعد الاجتياح العراقي للكويت، والعلاقة الشائكة مع القيادة العراقية حينذاك.. إلى آخره من مراحل التاريخ الفلسطيني المعاصر.
كذلك يصح أن تندرج المقابلة في باب المراجعة والنقد (الذاتي ربما) لحياة سياسية صاخبة وغنية بالتحولات، فعبد ربه المنقلب من «حركة القوميين العرب» إلى «الجبهة الشعبية»، منشقاً عنها، من ثم إلى «الجبهة الديمقراطية»، إلى أن غادر الأخيرة بعد ربع قرن ليشكل حزبه الخاص «فدا»، ليستقيل منه آخر الأمر، يعترف أنه لم يكن هنالك داع لكل تلك الانشقاقات، وأن الأمور كان يمكن لها أن تحلّ داخل الإطار الواحد، كما يحدث في «فتح» على ما يقول.
لكن عبد ربه يقول الآن عبارة «لا داعي للانشقاقات»، بكل هذه البساطة، من دون أن يقدم اعتذاراً صريحاً، إذ كانت تلك الانشقاقات في حينها مؤسفة مكلفة لشارع فلسطيني لم يكن يتحمل بعد كل تلك التشظيات. لن يُطلب إليه أن يفقأ عينيه، بل كان حرياً به مجرد اعتذار، هو الذي كان فاعلاً ومؤثراً وعلى رأس الأحداث.
أما الأخطر في مقابلته المتسلسلة (وصلت حتى الآن إلى حلقتها الرابعة) فهو تحيّته غير المفهومة لإسرائيل، عندما تحدث عن مرافقته لنعش الرئيس الفلسطيني الراحل عرفات من مطار العريش إلى رام الله «الطائرة انطلقت من مطار العريش، مرت عبر غزة، أي الساحل الفلسطيني كله، ثم التففنا من ناحية الأغوار وشاهدنا القدس، كأن أبو عمار يودع فلسطين جزءاً جزءاً». وهنا يقول «الإسرائيليون سمحوا لنا بهذا المرور، وشكراً أنهم سمحوا لنا بذلك».
نفهم أن للرجل برنامجه السياسي الواقعي، الذي يلتزمه منذ تأسيس «الديمقراطية»، لكن يفترض أنه الآن متحرر من «البرنامج المرحلي» ومن شروط التفاوض بعد أن بات خارج المناصب، فلماذا هذه الهدية المجانية؟ وهل كان يقصد حقاً أن ساحل غزة هو الساحل الفلسطيني كله؟!
زياد رحباني الآخر
في مقابلته الأخيرة مع زافين في برنامجه «بلا طول سيرة» ينفي الفنان زياد رحباني أي علاقة له بكلام منشور منسوب له ومتداول على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يُنقل أن المذيعة سألته: «شو بتنصح الأجيال اللي بدها تجي؟» فيكون جوابه: «بنصحها ما تجي».
زياد يؤكد أنه لا يقول مثل هذا الكلام، مستنكراً ومسخّفاً إياه. لكنه في الواقع كلام ذكي ومهضوم، ومن السهولة بالفعل أن يصدق المرء أنه صادر عن زياد. إنه يشبه وينسجم إلى حدّ كبير تلك النكات والأقاويل الشائعة المنقولة عن الفنان المتعدد المواهب.
كتب الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز مقالاً بعنوان «أنا الآخر» يسرد فيه قصصاً وجد نفسه فيها وقد أجرى مقابلات صحافية لم يجرِها في الواقع، أو كتب مقالات لم يكتبها، لكنه كان مذهولاً تماماً لأنه هو نفسه كاد يصدق، من فرط إتقان الكلام المزور والمنسوب إليه، أنه قال ذلك بالفعل. هذا يعني أن من يلفق ويزور قد يكون مبدعاً بالقدر ذاته، فلماذا يختفي؟ وأين يكون؟ ومتى يظهر للضوء؟
في السنوات العشر الأخيرة لطالما فكرت، وفي كل مرة يطلق فيها زياد رحباني تصريحات كارثية، هل هذا زياد نفسه الذي عرفناه في برامج إذاعية ولا أجمل، أو سمعنا وتناقلنا أشرطة مسرحياته على كاسيتات؟ لعلّي واحد ممن يحفظون إلى الآن حواريات كاملة من برنامجه الساحر «العقل زينة»، فهل كان زياد نفسه وراء البرنامج المتقن، أم أن فريقاً ما كان له فضل الإعداد والكتابة وسواهما من عمليات فنية؟
في الأحوال كلها، يشعر المرء أن هناك زياد رحباني آخر (وقد يكون بصيغة الجمع) موازياً للأصل، هو من يتولى إطلاق التصريحات الذكية التي نحب، في وقت يكاد زياد رحباني لا يتعرّف البتّة على ما ينسب إليه، بل يذهب برجليه إلى مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية من أجل القبض عليه.
في مشفى الأمراض العقلية
في العام الماضي نشرت «وكالة الصحافة الفرنسية» تقريراً عن مشفى للأمراض النفسية والعقلية في إعزاز في ريف حلب يؤوي المصدومين بسبب الحرب. الصور المرفقة جاءت محزنة ومعذبة للغاية، خصوصاً النظرات التائهة لنساء حانيات الظهر، المرضى المقهورين، الحفاة، وقد تمدّد بعضهم على البلاط العاري، أو إسفلت الباحة.
كانت الجدران متسخة ومحفوفة، الشبابيك عالية، حديدية وصدئة، وظهرت عبارة وحيدة من حديث نبوي مكتوبة في أعلى البوابة الداخلية المطلة على الباحة «روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلّت عميت».
تذكرت عالم ذلك المكان الحزين مع فيديو لـ «سي أن أن» تحت عنوان «في إسبانيا.. جداريات تحطم محرمات الصحة العقلية»، ويظهر فيه فنانون تطوعوا لرسم ألوان في غاية الجمال والمرح على جدار طويل قرب مشفى للأمراض العقلية والنفسية، بهدف تسليط الضوء على مشاكل الصحة العقلية وطريقة تقبّلها في المجتمعات. حتى أن بعض سكان المشفى، من المرضى على وجه الدقة، ساهموا بالرسم والتلوين وقضاء أوقات مرحة.
بدت مدينة «سانت بوي» تلك سعيدة وهي تحاول كسر صورتها كـ «مدينة المجانين»، ولعل التقرير برمته يترك أثراً مرحاً لدى المشاهد، بعكس الأثر الذي يتركه تقرير «وكالة الصحافة الفرنسية».
أحياناً لا يستطيع الناس تغيير مصائرهم تماماً، لكن على ما يبدو فإن قليلاً من التلوين قد يجعل المصير مقبولاً أكثر.
كاتب فلسطيني