تتعدد المداخل للاقتراب من كتاب عماد أبو صالح «يا أعمى»، لكن التأمل الدقيق يثبت أنها ترتبط بالشعر والشاعر، وحركية الشعر بعيدا عن الثبات، وحركية أماكنه التي يسكن فيها، فالشعر- الشعر الحقيقي- يتجلى في كل الأزمنة وفي كل الأماكن، بوصفه روحا خالدة، فهو أشبه بياقوتة تتعدد زوايا النظر إليها، وتظل بالرغم من هذا التعدد مزدانة ببريق خاص، حيث يأخذ مع كل مقاربة أو كل توجه شكلا جديدا، لا ينفي الاختلاف، بقدر ما يثبت تمدد الجذر المقدس والإلهي مع كل شكل أو تجل، بالرغم من التحويرات العديدة التي تغير في ملامحه أو في أماكن تواجده في كل فترة زمنية.
وبناء على هذا التعدد، لا يمكننا الوصول إلى تعريفه أو تحديده بشكل قار ونهائي. فنحن جميعا نعرفه ولا نعرفه في الآن ذاته، قد نشعر في بعض الأحيان أننا اقتربنا منه، وأمسكنا به، لكنه في هذه اللحظة بالذات نراه يتفلّت ليظلّ خارج حدود التأطير، قد نراه قريبا كذرة رمل، وقد نراه بعيدا كنجمة. اللافت للنظر- وربما يتساوق ذلك مع الفكرة السابقة – أن الكتاب «يا أعمى» يخلو من أية إشارة تجنيسية أو نوعية، فالكتاب في كل نصوصه دعوة للمطاردة، ولانفتاح الشعر على ذاته، لمعاينته والذات في لحظة الفعل والانفعال، لحظة الاشتباك الأثيرة، ولحظة الانفصال المخذولة باللهاث والعوز والسراب الذي نراه، محددا معيّنا، لكننا لا نستطيع الإمساك به، أو إعطاء صورة خاصة له واضحة الملامح.
غياب التجنيس عن غلاف الكتاب شيء مقصود ومتعمد، ليظلّ التساؤل حاضرا، وكأن هذا الكتاب من خلال اهتماماته الفنية الخاصة يؤسس طريقة جديدة للكتابة الشعرية، كتابة تخلط الشعر/الياقوتة المنطوية على جمالها بأحاديث سردية عن الشعر والشعراء، لتشير إلى أن هناك بابا جديدا يمكن أن يغيب فجوة التلقي، ويعيد للشعر بهاءه المفقود.
يؤسس عماد أبو صالح للشعر في هذا الكتاب روحا أشبه بهيولى يعاد تشكيلها في كل فترة زمنية، وبالرغم من توزّع الشعر إلى متن وهامش، يظلّ محافظا على حضوره، وتفلته في كل تجل من تجلياته. فالكتاب يؤسس أشكالا مختلفة للتجاور والتواجد حتى مع التباعد الزمني، واختلاف المنحى الفني. ويؤسس أيضا في إطار ذلك نزوعه الفني بعيدا عن الضوء، وبعيدا عن شعرية التنميق والصحة، ليصنع عزلته وهشاشته وهامشيته، ويشيّد عتمته. لا يكفّ البشر على اختلاف أزمانهم وأفكارهم عن محاولات تحديد الشعر والشاعر، فكل واحد يرى الشعر بطريقته وبأسلوبه وفق حدوده الفنية وقناعاته الفردية.
مطاردة الشعر والشاعر
تبدو أجزاء الكتاب الثلاثة التي جاءت دون عناوين منضوية على هدف تحاول جاهدة الوصول إليه، ففي الجزء الأول هناك مطاردة أو رصد للشعر والشاعر، وفي الثاني هناك محاولة لصناعة سلاسل فنية للشعراء، وكأنها محاولة للانتساب، بينما يأتي الجزء الأخير وكأنه كاشف عن ضرورة الشعر وحتمية وجوده، في ظلّ لحظة فارقة تدعو الشعراء إلى تأمل مأزقهم الوجودي، وتأمل شعرهم لإنتاج شعرية متساوقة مع هذا العصر. الكتاب يفترض ضرورة وجود شعرية مغايرة عمليا، فبدلا من البوح التلقائي الذي نجد حضوره واضحا باختلاف درجاته في كل الأشكال الكتابية الشعرية، نراه ينتهج طريقة طولية موغلة في الماضي، يتأمل فيها نماذجه واختياراته، ليقدم لها قراءة خاطئة أو عمياء.
في الجزء الأول يأتي الحديث عن الشعر متماهيا ومندمجا مع الحديث عن الشاعر، ورؤيته للشعر لا تنفصل عن رؤيته للشاعر، والتفريق بينهما هنا ليس إلا شكلا إجرائيا لمقاربة وعيه بهما بشكل منفصل. فكلاهما غير محدد بشكل نهائي، بل في نصوص الكتاب ما يشير إلى استحالة الوصول إلى الشعر أو إلى الشاعر، ففي قوله (الوصول إلى الشعر كالوصول إلى الله، مستحيل عن طريق واحد. لكن ماذا عن الذي فشل في الوصول؟ هذا هو الشاعر الحقيقي والمؤمن الحق) تأكيد على الفكرة، وعلى شدها إلى شيء من القداسة التي لم يتركها في كل صفحات الديوان إلا وخدشها.
يشيّد الكتاب ـ أيضا ـ في ظل التعدد مقارنة بين شعريات عديدة، ربما يكون الشعور بوجودها حاضرا، فنجد هناك تنضيدا لتقابلات لافتة، مثل (البرتقال) و(التفاح) إذا اعتبرنا الشعر حديقة، أو بين (نجمة) في السماء و(حصاة) على الشاطئ، أو بين (السماء) و(الأرض) في دلالتهما الواسعة. والنص بهذه التقابلات يحاول أن يصفي الحالة الشعرية من الهالات المحيطة بكل نوع، لأن المواجهة الذاتية لكل توجه كتابي سوف تحدث في لحظة ما، حين يتمّ تنحية المريدين والأتباع والمناصرين، فيواجه كل شاعر- أو كل توجه كتابي- صورته في المرآة أمام نفسه عاريا إلا من الشعر.
يتجاوب مع الثنائيات الشكلية السابقة جزئية المتن أو الهامش، فالكتاب يضع في بؤرة تركيزه واهتمامه نموذجا دائم الحضور في كل عصر، حيث يمثل هؤلاء الشعراء النموذج الملموس بحضوره من خلال وجوده الشكلي اللامع البرّاق، ولكن تأمل الكتاب لهذا النمط الشعري يعريه، ويزيل عنه القيمة، ويجرده منها، لأنه يرى الشعر- وفق انحيازه واختياره- بعين مغايرة، تركن إلى العزلة لا إلى الظهور، إلى الانطفاء لا إلى اللمعة البارقة المجوّفة، تركن ـ أيضا – إلى معاينة الهامش بكل ما يتجاوب معه من أصناف وأشكال بشرية لها طبيعة خاصة دائمة الحضور.
فالكتاب في تأسيسه لشعرية مختارة يحمل حملة ضد الجاهزية المتأنقة التي تتجلى في النص الشعري من خلال بناء محكم، فالكلمات في موضعها مستقرة دون زيادة أو نقصان، كأنها كتل متلاصقة، لا مساحة للبراح، ويأتي قول النص الشعري في محاربة هذا التأنق الفارغ واضحا: (لكن، قل يا أسطى: حين يهطل المطر، أين تنبت عشبة؟). الشعرية المختارة هنا تبدو متحققة في الخروج عن النظام المحكم المشبع بالتأنق، فالعشبة دليل مغايرة عن السابق المتأنق الموحّد في التمدد دون خروقات، وهي هنا امتداد لفكرة إساءة القراءة التي ألمحنا إليها سابقا. ويتجاوب مع هجاء الجاهزية المتأنقة المشدودة حتما للمتن أو للنمط الجاهز الذي يغيّب أي خروج، توزّع صورتي الشعرية بين الصحة والمرض أو بين الراحة وغيابها، حيث ينفي النص الشاعرية عن الإطار المرتبط بالراحة والهدوء والاطمئنان، ويثبتها للقلق والتشظي، يقول النص (بيتك جيد، صحتك جيدة، زوجتك جيدة، مهنتك جيدة، أنت مرتاح، والشعر عدو الراحة).
وإذا كانت مطاردة الشعر للوصول إلى أشكاله منفتحة على التعدد الذي يغيّب ويذيب الشكل الأحادي للفن، ويجعله أقرب إلى المتعاليات المتوالدة الممتدة لا يخلو من أسرار وقداسة، فإن مطاردة الشاعر لمحاولة تأطيره وتحديده تأتي مندرجة داخل ذلك السياق المرتبط باستحالة تحديده في شكل وحيد، فالشعراء فصائل وسلاسل، وهذا يجعل فكرة التحديد أو التعريف صعبة.
همّ الشاعر كما يتجلى في هذا الكتاب يتمثل في الإنسان في كل هيئاته، ظالما ومظلوما، قاتلا ومقتولا، لأن القاتل والظالم يستجيبان لأزمة داخلية تراجيدية (الشاعر يحس لمسة أصابع عاشق على يد حبيبته، ويحس ضغطة أصابع قاتل على الزناد). وتحديد الشاعر يتم وفق تحلله من روابطه الجاهزة، وإثبات انتمائه للإنسان. فالشاعر لا ينتمي لمكان أو لشعب أو للغة، الشاعر وليد الإنسانية، فالحدود التي تفصل بين أعراق وأجناس البشر لا وجود لها، فرامبو على حد تعبير الكتاب كان يردد بالعربية (الله كريم)، بعد أن أكل السرطان ساقه، ولوركا كان يقول متباهيا أمام الكل (في عروقي دم عربي). وإذا كان الشعر خارج تصنيفات العرق واللون والدين، فبوسعنا أن نجمع بين ناقة قيس وسيارة إيلوار، أو بين بار بوكوفسكي وحانة أبي نواس، لأننا حين نقوم بذلك نصنع للشعر وللشاعر ذاكرة إنسانية منفتحة، تتعاظم على محدودية الزمن أولا، وتتلافى الآثار السلبية المعرقلة المشدودة لانتماءات العرق واللون، ويمكن أيضا من خلالها أن نصل إلى جوهر الشعر الممتد بالرغم من كوننا لا نستطيع حصره أو تحديده في هيئة واحدة.
فصائل الشعراء وخطأ التأويل
تلحّ في هذا الكتاب تحت تأثير تصفية وجه الشاعر للوصول إلى وجهه الإنساني بعيدا عن الارتباطات الأخرى الزائلة وفق رؤيته، فكرة لها وجود متكرر في كل الآداب، وهي فكرة التكوين الآني للشعراء، وارتباطه بمنجز السابقين، وكيفية قراءة هذا المنجز، وطول مقاربته ومراودته لإنجاز شيء مغاير. وربما كان الدافع إلى هذا التوجه في محاولة الاقتراب من الكتاب شيئين: الأول منهما يتمثل في صورة الغلاف التي تجمع بين شاعر قديم (كفافيس)، والشاعر الآني (عماد أبو صالح)، وبينهما عنوان الكتاب (يا أعمى).
وهذا العنوان أو تلك الجملة لم ترد في علاقته الممتدة بكفافيس على طول صفحات الديوان، ولكنها وردت في حديثه ولقائه بالمعري، والخطأ الذي استوجب الوصف (يا أعمى) ليس خطأ في القراءة بمعناها المباشر، ولكنه خطأ في النطق الذي يفضي بالضرورة إلى خطأ في التأويل والرؤية. والشيء الثاني الذي يجعل هذا التوجه مدخلا لقراءة الكتاب، يتمثل في الاستعارة التي جاءت في الكتاب، وهي (الشعر ضبع)، فالشاعر هنا يستعير الفكرة المعروفة عن الضبع بكونه آكلا للجيف أو صيد الآخرين، ليعيد تأسيس اشتغالها في مجال آخر، وهي الفاعلية المضافة من خلال منجز السابقين.
يشتغل الكتاب على فكرة التمثيل استنادا إلى المتبقي داخل الذاكرة من كل شاعر سابق، فالشاعر الآني – نظرا لقدره- ليس في وسعه أن يتخلص من البؤر الدلالية القديمة التي تظل عالقة بذاكرته عن الشعراء السابقين. والوقوف عندهم في سياق تنضيد خصوصية شعريته أو تقديم سيرة شعرية خاصة به ليس إلا إشارة إلى ارتباط ما، ليس بالشخص أو الشاعر بذاته، ولكن الارتباط بالصورة المتخيلة عن الشاعر. وفي ظل ذلك يأتي كفافيس كجوهرة نادرة، وزهير بن أبي سلمى كطفل جاوز الثمانين، وقيس علما على الحب، وجلال الدين الرومي علما على شعر الروح.
الشعراء في هذا الكتاب سلاسل فنية أو شعرية تتناسل بعضها من بعض في ظل القدرة على التمثيل المبني على القراءة الخاطئة أو العمى. فالشعر دائرة أو دوائر مشدودة للمركز، لكنها ـ أيضا ـ لمحيطها الذي يتماس مع الواقع، وهي في ظل هذا التكوين المزدوج منفتحة على الإضافة بفعل القراءة والتأويل، وتتوالد تمدداتها من بعضها البعض قربا أو ابتعادا عن المركز أو البؤر الأولى للإجابات القديمة عن اسئلة الشعر، تحمل منها أشياء تظل دائمة الحضور، لكنها بالضرورة تختلف عنها في أشياء جديدة، تأخذ مساراتها، وتتشكل في مسارب جديدة، للإجابة عن أسئلة الفن التي تتراكم في كل عصر، ولصناعة سير فردية شعرية لا تكف عن الإشارة إلى الآباء السابقين.
عماد أبو صالح: «يا أعمى»
دار أثر، الدمام 2023
82 صفحة.