في ظل ما يحدث في غزة من مجازر ضحيتها الأولى الأطفال والنساء، عادت أغنيات النضال تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، وعجبتُ بقدر ما سعدت لرؤية الشباب الذي كان متابعا للشاب التركي الذي يهز كرشه، ولمحمد محسن صاحب «البيو بيو» الشهيرة، ولكل ذلك المستنقع من التفاهة الذي نغرق فيه يوميا، أن يتحول ليبث مقاطع من «عروس المدائن» لفيروز و«أجمل الأمهات» لمارسيل خليفة، كما صادفتني مرارا حالات على الانستغرام لمقطع «حاصر حصارك» لماجدة الرومي من قصيدة مديح الظل العالي الشهيرة لمحمود درويش.
هذا اللقاء الافتراضي بماجدة الرومي أعادني إلى مرحلة الشباب والجامعة وبداياتي في الإذاعة والشغف بقصائد شعراء الأرض المحتلة، غير أن تعرفي على غناء ماجدة لم يكن عبر أغانيها الملتزمة، بل عبر مثيلات «عم يسألوني عليك الناس» و«خذني حبيبي» و«مطرحك بقلبي» التي كانت مع روائع فيروز تملأ علي صباحاتي يومها وتشاركني فنجان القهوة. وكان شريط كاسيت أغانيها حينها لا يفارق مسجلة سيارتي الأولى، لا أمل سماعه وأنقل هذه العدوى مسرورة إلى صديقاتي. وحتى أثناء عملي مذيعة أخبار في إذاعة البحرين كان لي طقس الاستماع إلى أغاني ماجدة الرومي بين موجزين وقد سكنت أفكاري بألبومها «يا ساكن أفكاري» (سنة 1986) حالمة بالمقبل الأجمل مع صوتها وهو يشدو «أنا عم بحلم ليل نهار بالورده المليانه زرار». وكانت أغانيها واحة رومانسية أفيء إلى ظلالها بعيدا عن ضغط الدراسة والعمل والمسؤولية العائلية والالتزام بالقضايا القومية. فأهرب لدقائق تطول عادة لأستمع إلى هذه الصبية الأثيرية الأشبه بفراشة وهي تكتب أبجدية جديدة للحب بصوت لا يشبه إلا نفسه.
زارت ماجدة الرومي البحرين في أواخر الثمانينيات لإحياء حفلة لها وسجلت فيديو كليب في قلعة عراد التاريخية لأغنيتها «أنا عم بحلم» وكم كنت سعيدة أن مخرج الفيديو لم يكن سوى حسن عيسى واحد من الرعيل الأول في تلفزيون البحرين، وقد قدمت بإخراجه بعض برامج المنوعات في بداياتي التلفزيونية، فكنت أستغل فرصة التقائه في أروقة مبنى التلفزيون لأسأله بلهفة عن ماجدة الرومي، وكيف هي بعيدا عن الصورة الرسمية التي تقدمها لنا أغانيها، فكان يحدثني عن روحها المرحة وخفة دمها مما تحجبه عنا جدية أغانيها الملتزمة أو رومانسية أغانيها العاطفية. وشاء لي القدر سنة 1990 مع انطلاق البث الفضائي لتلفزيون البحرين، عبر الأقمار الصناعية أن أتشرف بتقديم مع زميل لي سهرة مشتركة مع تلفزيون لبنان كان ضيفاها ماجدة الرومي ومارسيل خليفة، وعرفت من يومها كيف يتم بناء الصورة والمحافظة عليها، فقد كنت أمام فنانة كل شيء عندها مدروس: طلّتها جلستها ثيابها أناقتها، لكنها لم تتخلّ عن عفويتها في الكلام. وهذا اللقاء التلفزيوني فتح شهيتي على لقاء شخصي كانت جامعتي سببا فيه، فقد نظمت لها لجنة الطلبة للأنشطة الثقافية في جامعة البحرين ندوة أقيمت في أشهر قاعات الجامعة قاعة الملك عبد العزيز، وحظيتُ بمرافقتها في جولة على مرافق الجامعة، وكم أحسست يومها بالقرب منها حين علمت أنها درست الأدب العربي في الجامعة مثلما كنت أدرس حينها. ولعل لهذه الدراسة دورا في هذه الانتقائية الرفيعة لكلمات أغانيها يستوي في ذلك ما كان بالعامية أو بالفصحى. وكانت فرصة لي وأنا الموظفة بدوام جزئي في تلفزيون البحرين، أن أجري معها لقاء قصيرا، طمعا في لقاء أطول لم تتوفر ظروفه إلى الآن.
لأني عاشقة لصوت ماجدة الرومي وأغانيها، ولأني معجبة بالصورة التي رسمتها لنفسها من إبعاد حياتها الشخصية عن التداول الإعلامي رغم إلحاح بعض متصيدي الفضائح على حشر أنوفهم في أي خلاف عائلي، ولأني كنت وما أزال حريصة على أن تكون برامجي التي قدّمتها نوعية في ضيوفها وطرحها، ما زلت أحلم أن أستضيف يوما ماجدة الرومي، لكني على يقين أيضا أن «كل شي في وقته حلو».
بعد ذلك اللقاء الذي أتى بلا ميعاد صدر لها سنة 1991 ألبوم «كلمات» وكان فيه لمفاجأتي أغنية «يا ست الدنيا يا بيروت» و«كلمات» وكلتاهما لشاعري الأثير نزار قباني، فكانت سعادتي لا توصف باجتماع الشاعر الذي أحب بالفنانة التي أعشق. ومن يومها أصبحت «كلمات ليست كالكلمات» تراقص سمعي كل يوم. أما «يا ست الدنيا يا بيروت» فقد كانت رفيقة سفري إلى لبنان حين زرته بعد التحرير سنة 2000 فحيثما توجهتُ ينبعث من مسجلات السيارات ويصدح في صالات المقاهي صوت ماجدة الرومي وهي تهتف «قومي من تحت الردم كزهرة لوز في نيسان .. قومي من حزنك قومي .. إن الثورة تولد من رحم الأحزان».
هذا العشق لأغانيها كان يدفعني دائما لحضور حفلاتها منذ بداية التسعينيات في مهرجان جرش، وكانت سيدة المهرجان بلا منازع. على أحجار المدرج الجنوبي يجلس الشباب والصبايا بعيون يرقص فيها الحلم وقلوب يخفق فيها الحب وهم يستمعون إلى «كن صديقي» وأخواتها لتشتعل أكفّهم بعد ذلك حماسة مع «فأنت الآن حرٌّ وحرٌّ وحرُّ». كما حضرت حفلاتها في مهرجان الصوت والضوء في القاهرة وأنا طالبة دراسات عليا هناك، ثم وأنا مقدمة برامج في تلفزيون البحرين بدءا، ثم تلفزيون دبي انتهاءً، وكم من مكان جمعني بصوتها في البحرين والشارقة وأبوظبي، وكنت على موعد مع أغانيها في دار الأوبرا السلطانية في مسقط قبل أيام، لولا أن حفلها ألغي تضامنا مع الشعب الفلسطيني. وشاء لي القدر ثانية بعد قرابة الثلاثين سنة من لقائي الأول بها في أروقة جامعة البحرين أن نلتقي مجددا سنة 2019 في الدورة الرابعة من «تحدي القراءة العربي» بدبي وكنت في لجنة التحكيم مع الممثل السوري المبدع جمال سليمان، وكانت ماجدة الرومي نجمة الاحتفالية الختامية، حين قدمت عملا حصريا لمهرجان التحدي بعنوان «الأرض ستبقى عربية» وفي كواليس مسرح أوبرا دبي ضحكتْ حين أخبرتها أنني عاشقة لكل أغانيها، غير أن اللؤلؤة التي تتوسط عقد هذه الأغاني هي أغنية «كلمات» التي اجتمع فيها ثالوث مبدع: شعر نزار قباني وألحان إحسان المنذر وصوت ماجدة، ولم أكن الوحيدة التي تفضل هذه الأغنية، ففي رواية «صانع الحكايات» أطلق الروائي الفلسطيني خالد جمعة اسم «كلمات» على بطلة روايته إعجابا بالأغنية.
وشاء لي القدر مرة ثالثة أن يتقاطع دربي بدرب ماجدة الرومي، لكن هذه المرة عبر الورق، فقد أصدرت دار أنطوان هاشيت السنة الماضية (2022) مختارات من شعر نزار قباني فعهدتْ لأعضاء في «الحزب النزاري» كما يحلو لي أن أسميه بكتابة مقدمات المختارات فكتبت الروائية المبدعة أحلام مستغانمي مقدمة الجزء المعنون ب«لا شيء إلا العشق» وكتبت أنا مقدمة جزء «عاشق الكلمات» وكانت مقدمة الجزء الذي يحمل عنوان «هي في قصائده» من حصة ماجدة الرومي، فجمعنا حب شعر نزار قباني حيّا وميتا. واستطرادا أقول إنني أشعر بأنّ ما غنته ماجدة من شعر نزار مفصل على قياسها كما كانت قصيدة «كن صديقي» للشاعرة سعاد الصباح كذلك فلا أستطيع تصورها بغير صوت ماجدة الرومي، هذا الصوت الذي رافقنا طيلة نصف قرن منذ أن غنت في البرنامج اللبناني لاكتشاف المواهب «ستيديو الفن» سنة 1974 رائعة ليلى مراد «أنا قلبي دليلي» يومها شاهد الجمهور ولادة نجمة هي بنت الملحن حليم الرومي مكتشف فيروز ومانحها هذا الاسم. وكم تضايقت حين شعرت بتعب هذا الصوت الماسي في حفلها الغنائي في حديقة قصر القبة الأثري قبل سنتين، صوت أثخنه ما حصل لبيروت من انفجار مرفئها فأسال دموع ماجدة وهي تغني «نعترف أمام الله الواحد أنّا كنّا منك نغار وكان جمالك يؤذينا» لكن ما لبث أن عاد إلى نقائه وصفائه فقدَرُ البلبل أن يغرّد.
لأني عاشقة لصوت ماجدة الرومي وأغانيها، ولأني معجبة بالصورة التي رسمتها لنفسها من إبعاد حياتها الشخصية عن التداول الإعلامي رغم إلحاح بعض متصيدي الفضائح على حشر أنوفهم في أي خلاف عائلي، ولأني كنت وما أزال حريصة على أن تكون برامجي التي قدّمتها نوعية في ضيوفها وطرحها، ما زلت أحلم أن أستضيف يوما ماجدة الرومي، لكني على يقين أيضا أن «كل شي في وقته حلو».
شاعرة وإعلامية من البحرين