يسار يوك!

حجم الخط
0

في مساء بعيد، أرّق صيف أريحا منام فيصل الحسيني. استدعاني لنذهب معا إلى مقر الرئاسة في مدينة هشام. وصلنا في حدود العاشرة. أبو عمّار يقف، يحضنني كما يحب ويجيد.
بعد جلسة قصيرة دعــــي الحاضـــرون إلى مائـــدة عشائه. أجلسنا وكان نصيبي بجانب فيصل الذي كان يقابله تماما. بعد العشاء، بدأ د. صائـــــب عريقات، أبو علي، يقشّر حبات برتقال من صحن فاكهة توسط الطاولة. أنهى تحزيز الأولى، وبدأ يوزّعها على من تحلّق حول الطاولة. بعد الحبة الثانية بادره أبو عمار بشوكته وعلى رأسها قطعة برتقال شكّها من صحنه الخاص، أخذها صائب واستمر في توزيع الفاكهة على ضيوف الرئيس. من طرفه تابع أبو عمار وقدم الفاكهة لصائب قائلا له: ‘كول يا صائب’.
على مشارف أريحا تذكّرت هذه القصة وكنت أسمع مقابلة مع بروفيسور أومان، إليه توجّهت وسائل الإعلام الإسرائيلية، وسألت رأيه في عودة الأطراف إلى طاولة المفاوضات، ‘هذه المفاوضات ما هي إلا لعبة، ففي نهاية المطاف يريد الفلسطينيون كل الأرض من البحر إلى نهر الأردن’. مندهشا سألت نفسي: هل يعرفون في فلسطين من يكون هذا ‘العالم’؟ هل يعرفون أنه حائز جائزة نوبل في الاقتصاد وأنه صاحب نظرية مهمة في الاقتصاد ادعى أنها قابلة للتطبيق على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ هل يعرف الفلسطينيون زملاء هذا العالم أمثال كانمان صاحب نوبل آخر في الاقتصاد! وأيال فينتر، الذي قد يحصل عليها قريبا، وهل يعرفون أن لهؤلاء العلماء دورا أساسيا في تسليح ساستهم بالنظرية والتطبيق والأدوات قبل ذهابهم لكل دورة مفاوضات؟
‘هذه المفاوضات تشكّل فرصة لتطوير خطة عمل تحدد أطر التفاوض خلال الأشهر القادمة’، هكذا صرّح الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، حينما واجه صحافة العالم، وشخّص بأسلوب دبلوماسي أمريكي عودة الأبناء الضالين إلى بيتهم الأبيض. جاء كلام الناطق بهدف تهذيب التوقعات من هذه المفاوضات ولكن من يقرأ هذه الكلمات القليلة بإمعان، حتى لو لم يكن صاحب خيال بارع، فإنه يستطيع أن يفهم أن القضية أقرب إلى ما تعلمناه صغارا عندما اعتاد كبارنا في ذات ليلة باردة وعمدوا الى اشغالنا بترداد حكاية ‘إبريق الزيت’ التي كنّا ننام على ايقاعها أو قل من عبثيتها.
في المقابل، إذا اقتفينا دليل موازين القوى، فلسطينيا، عالميا وفي منطقتنا، نرى أن المنطقة تتأرجح على صخور بركانية متفجرة، وعلى الرغم ممّا يستشرفه المتفائلون والثوريون من ريع مؤكد سيرصد في صندوق القضية الفلسطينية، تبقى هذه مقامرات والمستقبل أحيانا يكون خيّابًا.
الحالة السياسية الداخلية في فلسطين تعيسة، وكذلك الحالة الاقتصادية. أخطر ما في هذا الواقع هو انعدام الأمل والأفق، وهذان كانا دوما في حياة شعوب احتلت، ضمانات صمود وكفالات نصر مؤجّل.
ستبقى القيادة الفلسطينية، رغم ما يجمعه هذا الوصف من ضبابية والتباس، هي المسؤولة الرئيسية عن هذه الحالة والواقع، ولكن هل بهذا الاكتشاف شفاء وحل؟ فأين أحزاب المعارضة وفصائل الثورة وحركات الاحتجاج وجماعات المثقفين والنخب المؤثرة؟ أين جميع هؤلاء طيلة عقدين وأكثر من الزمن؟ ماذا فعل قادة اليسار الفلسطيني حين كانوا ينتظمون في اجتماعات ‘القيادة’ ونهاية الشهور كفريق عمل واحد، أو أعضاء في هيئة تدريسية واحدة.
فلسطين عاشت في زمن، حلوق الناس فيه ضجرت مرددةً: ‘نفسي فيه وتفو عليه’! فكيف يكون الرجاء؟
لا أتحدّث عن هذه الأيام، فهي واقع لما سبقها من نضالات، وكذلك نتاج لما ساد من صمت وعجز ومحاباة. لو بقيت القضية محصورة بتغييب الاحتلال أو بغياب النضال الحقيقي المجدي في وجهه لكنا في مرحلة ‘التفريخ’ التي قد يتبعها عهد ‘الصوصوة’. المأساة أننا في وضع أصبحت قطاعات مؤثرة عريضة وشرائح كثيرة متشابكة بشراكات ومصالح مع الاحتلال وأدواته.
الجبن سيّد، والإيمان بعدمية الفوائد قناعة، فلطالما تسمع في الزوايا: ‘أضحّي من شان مين وشو؟’. أوَلم يخططوا لإبقاء الفلسطيني ابنا ‘للأونروا’ وليعش بين كرتين؛ كرت المؤن وكرت الـVIP
نعم للمفاوضات، لا للمفاوضات، نقاشات موسمية تترك الجميع منهمكا بنزاعات فصائلية لا طائل من ورائها. فالنضال لم يكن يوما صرعة وموضة. أخشى أن أقول ما تردده المجالس في فلسطين؛ فحركات سياسية وفصائل فلسطينية كبيرة منها وصغيرة أضحت أطرا نفدت صلاحيتها وانتهت تواريخها، ولم تعد صالحة لقيادة شعب ما زال يرزح تحت الاحتلال. أيعقل أن يصير ويبقى هذا واقعا؟
غادرت مقر الرئاسة غاضبا. قلت لفيصل ما هذا العيب؟ كيف لأبي عمّار أن يتجاهل كل الحضور ويخص صائبا بهذه اللفتة والكرم؟ كدتُ أن أتمادى، فأوقفني فيصل، وعلّمني واحدا من أوائل دروس الشيفرة الفلسطينية التي، كما فهمت وقتها، يجيدها صائب ومن كان معنا ويفهمونها على أصولها. كان فيصل واثقا أن ‘أبو علي’ يعرف من يقف وراء الشجرة، ومن سيبقى سيّد الطاولة.
صارت أريحا خلفي، طيب تلك الذكرى يعبق، وصوت ذلك ‘العالم’ ما زال يفسّر ويشرح. أنهى، وحضرتني حكمة قديمة تساءلت: ‘نعرف الصوت الذي تحدثه يدان تصفقان، ولكن ما هو الصوت الذي تحدثه يد واحدة تصفق؟’ أخالني سمعت ما يشبه الصدى يقول ‘يسااااار يوووك’.

‘ محامي فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية