كانت بدايته الأولى في فيلم «سرقات صيفية» عام 1987 حدثاً فنياً كبيراً، عمل مساعداً ليوسف شاهين في أهم أفلامه «وداعاً بونابرت» و»إسكندرية كمان وكمان» و»القاهرة منورة بأهلها» وكان ذراعه اليمنى. صار مخرجاً يُخشى منه ويُخشى عليه، فالفيلم الذي يُمثل تجربته الأولى في السينما الروائية الطويلة يحصد ثماني عشرة جائزة في أكبر المهرجانات الدولية والعالمية ويُثير جدلاً واسع الصدى حول موهبة مخرجه التي تجاوزت كل التوقعات.
إنه يسري نصر الله ابن الطبقة الأرستقراطية وأكبر المدافعين عن حقوق الفقراء والمُعدمين، فقد طرح فيلمه «سرقات صيفية» فكرة إنسانية عن افتراضية تعايش الطبقتين الفقيرة والغنية في محيط واحد بلا حواجز أو فواصل اجتماعية تفرض وجود مسافة بين الطبقتين المختلفتين اقتصادياً، ولعل فكرة الفيلم ذاتها كانت هاجساً عند يسري نفسه الذي لم يؤمن يوماً بالفارق الطبقي، رغم انتمائه لعائلة ارستقراطية عريقة في الثراء تمتلك الكثير من مميزات الوجاهة الاجتماعية.
لقد تغلب العامل الثقافي على كل مُعطيات التميز الاجتماعي لدى نصر الله، فآثر أن يكون ذلك عنواناً لإبداعه وعلامة على اختلافه، وربما دللت معظم أفلامه على هذا المنهج بغير ضجيج أو متاجرة بالمعنى الإنساني الذي حرص على تضمينه في محتوى المشاهد وطبيعة الشخصيات الدرامية التي خلق لها حيزاً في الأحداث والحكايات والمسارات.
في فيلم «مرسيدس» عمد يسري إلى السخرية من التوليفة الأرستقراطية المتفرنجة، وجعل بطل الفيلم «نوبي» دليلاً على عدم استحالة الجمع بين اللونين الأبيض والأسود، عبر علاقة عاطفية جمعت بين فتاة أرستقراطية شقراء ودبلوماسي افريقي، له سمات الشخصية الافريقية شكلاً وموضوعاً، إذ أسفرت علاقة الحب عن ميلاد طفل يحمل جينات الأبوين المُختلفين.
ورغم تداخل أحداث الفيلم وغموضها، واعتبار فكرته نوعاً من السيريالية السينمائية، إلا أنه يظل عملاً إبداعياً جريئاً ومختلفاً في كل تفاصيله، وإن لم يحظى بالنجاح المتوقع، وبناءً على اغتراب الجمهور مع التجربة السيريالية، حسب وصف النقاد في حينه، ابتعد يسري نصر الله فترة غير قصيرة وقرر الهروب من عالم الفيلم الروائي الطويل إلى الفيلم التسجيلي، فكان إبداعه جلياً وثرياً في فيلم «صبيان وبنات» الذي بُنيت فكرته على انسجام كامل بين شرائح المجتمع كافة، وإلغاء تام لكل الفوارق، مع تركيز مُكثف على المشتركات الإنسانية بين مختلف الطبقات والأجيال، ورصد للظواهر الاجتماعية ومُتغيرات الواقع المصري، مع النظر بعمق لدلالات التماسك في بنيان الأسرة المصرية البسيطة وهو ما يُمثل جوهر الحالة التي أراد المخرج المتمرد تسجيلها لتكون رهانه في ما يطرحه من صور مغايرة.
في عام 1999 قدم المخرج الكبير فيلم «المدينة» عن مُشكلات الهجرة غير الشرعية وحُلم السفر إلى أوروبا، واختار باسم سمرة بطلاً مُطلقاً لقصة الشاب الذي جازف وسافر إلى فرنسا يقتفي أثر حُلمة الوهمي باحثاً عن نفسه بين ملايين البشر فلم يجد سوى خيبة الأمل تنتظره على مشارف المدينة الأخرى، وهو الهارب من جحيم مدينته الأصلية، حيث الفقر والفقد والبطالة والفشل، حلقات مُتصلة مُنفصلة لمُشكلات وأعباء في حياة لا يتوافر فيها الحد الأدنى من الاستقرار والراحة، ولا يتجدد فيها الأمل إلا بشروط الواقع الذي يفرض الانحراف، ويجعل الخيار الوحيد المُتاح يتراوح ما بين السيئ والأسوأ!
معاناة تجرأ على رصدها يسري نصر الله، وتقديمها إلى جمهور الشباب لإدراك خطورتها، علهم يدرسون خطواتهم قبل التورط في الهجرة والسعي وراء حُلم لن تُحققه مغامرة الهروب بتلك الكيفية، فالبطل السينمائي الذي اختاره المخرج ليكون نموذجاً للمغامرة، عاد خالي الوفاض من رحلة الشقاء والتعذيب والموت المُرتقب بين لحظة وأخرى.
وتأتي التجربة الأهم في إبداع تلميذ يوسف شاهين النجيب، مُجسدة في فيلم «باب الشمس» عام 2005 وهو إنتاج فرنسي مغربي مشترك، تتناول أحداثه الواقع الفلسطيني في جزأين مهمين تحت عنوان الرحيل والعودة، حيث تم عرض فصول معاناة وعذابات المواطن الفلسطيني في الأراضي المُحتلة كافة، الواقعة تحت سطوة وسُلطة العدوان الإسرائيلي، الخليل وخان يونس وقرية شعب والضفة والقدس وجنين وبيت لحم وطول كرم وتل الربيع وغيرها، وقد برع المخرج في تصوير المحنة وبشاعة الواقع المُعاش في المدن والقرى المذكورة دون الإشارة – مجرد الإشارة بالصوت أو الصورة لبندقية أو مدفع أو دبابة، وإنما لعب كعادته على حالات الشتات والتهجير، وما تحمله المشاهد من تفاصيل إنسانية بالغة القسوة، تحمل في ذاتها بلاغة التعبير، ولا تحتاج إلى إضافات مباشرة لبيان الظُلم وتأكيده.
ومن الواقع الفلسطيني إلى الواقع المصري كانت البانوراما المأساوية التي رأيناها في فيلم «إحكي يا شهرزاد» للكاتب وحيد حامد والموقعة بإمضاء المخرج ذاته، الناقل والراصد لأمراض المُجتمعات في واحدة من الحالات المُوجعة التي تعبر عن جُل القهر الذي يقود إلى الجرائم، إذا ما ضل الإنسان طريقة وأصبح هدفاً لكل ألوان الاضطهاد، وضحية للعبث بحياته ومُقدراته وأسباب وجودة وكينونته.
آخر أفلام المخرج يسري نصر الله «الماء والخضرة والوجه الحسن» الذي أعقب فيلمه التسجيلي الروائي «بعد الموقعة» جاء مُختلفاً إلى حد كبير عن سابق الأفلام التي ذكرناها، إذ أنه حاول أن يُثبت لنفسه وللجمهور والنقاد أنه قادر على التماس مع الذوق الشعبي والوصول إلى الغاية الجماهيرية المنشودة، لذ وقع اختياره على ليلى علوي لتكون هي البطلة أمام باسم سمرة في موضوع بسيط ومتواضع إلى حد كبير، لكن الحيلة لم تفلح، فالفيلم حقق بالكاد الحد الأدنى من النجاح، وخسر يسري الرهان، بينما بقي فيلمه «بعد الموقعة» المأخوذة أحداثة عن موقعة الجمل الشهيرة إبان قيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 محل خلاف كبير، كونه يحمل نبرة تعاطف مع من نفذوا موقعة الجمل، باعتبارهم من المُغرر بهم والمغلوب على أمرهم، حسب ما ورد، وما تبين من السياق الدرامي المُلفق والمغلوط.
كاتب مصري