«يغور»؟

كنت قد تحدثت في مقال سابق عن توحد النساء في تجربة الألم والشجن في الحياة وانعكاساً في الفن كذلك، حيث أشرت إلى التفاعل النسائي مع أغنيات الفنانة شيرين في إحدى حفلاتها توحداً في تجربة الحب والغدر والقهر، متمنية توحد النساء في القضايا الأعمق والأخطر على البشرية بأكملها تفاعلاً مع تجربة المرأة الفلسطينية التي تحاربها الآلة الصهيونية تحديداً بتقصى جنسها، بل وتحارب المجتمع الفلسطيني بأكمله من خلال محاولة كسر المرأة الفلسطينية، والتي هي محاولة تبوء بالفشل منذ خمسة وسبعين سنة وتستمر.
في تجربة فنية أخرى، بدا توحد النساء واضحاً مجدداً في تجربة الحب والغدر والعذاب، وذلك من خلال أغنية الفنانة بوسي، التي هي بعنوان «دنيا جديدة» والتي ساهمت في صنع حراك إلكتروني ضد ظاهرة العنف الأسري ضد النساء. تتحدث الفنانة في أغنيتها واسعة الانتشار على وسائل التواصل عن ندم «شخصية» القصة لتسرعها في تجربة زواج دخلتها على إثر الانصياع لمشاعر الحب والعصيان لمشورة الأهل، التي حطمتها وغيرت حياتها. تفاعلت العديد من النساء -شابات وهؤلاء الأكبر سناً- مع الأغنية، وعلى الرغم من الإطار الشعبي للفنانة وللأغنية الذي عادة ما يدل على تواضع القيمة الفنية للعمل، وهو تدليل تمييزي غير صحيح، فإن حملة كبيرة تشكلت على حس نغمات هذه الأغنية وكلماتها شاركت فيها النساء توحداً في تجربة لربما هي الأصعب التي قد تمر بها شابة في مقتبل العمر، كما هي بذات الصعوبة على تلك الأكبر سناً والتي تعايش هذه التجربة العنيفة بقية سنوات حياتها.
تشجعت العديد من النساء، على إثر انطلاق الأغنية وتحقيق تفاعل كبير معها ومعانيها، على استعراض قصصهن المؤلمة الحزينة. بدأت الكثيرات على تطبيق «تيك توك» بسرد قصص آلامهن التي تراوحت بين الخيانة وإساءة المعاملة وصولاً إلى الضرب والإيذاء الجسدي والتعدي الجنسي، مرددات كلمة «يغور» الواردة في الأغنية تعبيراً عن رفضهن للرجل العنيف وإصرارهن على نزعه من حيواتهن، حتى لتشكلت ظاهرة فنية اجتماعية وتبدت ثورة إلكترونية كانت طلائعها هذه الأغنية بكلماتها. توالت فيديوهات هذه السيدات، صغيرات في العمر ومتقدمات فيه، تتحدث صاحباتها عن معاناة مستمرة مع العنف الزوجي أوالخيانة أوالبخل، مع استعراض أثر العنف، فعلياً ونفسياً، على الوجوه والملامح في رسالة جريئة ومباشرة ومنظورة حول تعنيف النساء، يجمعهن جميعاً ندم يفوق الوصف إما للتسرع، للرضوخ للمشاعر الساذجة، لعدم الاستماع لنصح الأهل، وأحياناً للاستماع لنصحهم والرضوخ لضغوطهم. بعض هذه السيدات استعرضت مظاهر ودلائل المعاناة الجسدية، مثل الكدمات على الوجوه والجروح على الجسد، كما قصت بعضهن تفاصيل موجعة خاصة، فيما بدا وكأنها ثورة فعلية على فكرة «الستر» التي طالما دفنت النساء، مجازاً وحقيقة، تحتها.
ومثلما أعادني حفل شيرين لنساء غزة، تعيدني «يغور» والتداعيات الثورية لها على وسائل التواصل لهؤلاء النساء البطلات المنكوبات، هؤلاء اللواتي يمررن الآن بتجربة قد لم تمر بها امرأة أخرى في هذا القرن، لربما نساء السودان واليمن حالياً استثناء، وإن كان ليس بالقدر والوجع والفقد ذاته. في زمن الحرب، لا تعاني النساء فقط من العدوان العسكري الذي يفجر بيوتهن ويقتل أبناءهن ويختطف رجالهن وينتهك خصوصياتهن ويحرمهن احتياجات نفسية وجسدية ملحة، بل ويضع خصوصياتهن المتروكة خلفهن في بيوتهن وغرفهن الخاصة عرضة لأيادي العدو النجسة، ولا تتحمل هؤلاء النساء فقط مسؤولية إعادة البناء وترميم الصدوعات وإعادة فتح المدارس ومحاولة تدبير الطعام والسعي لتطبيب الجرحى، وإعادة فتح البيوت وترميم خراباتها النفسية كما المادية، إنما تتحمل هذه النساء كذلك الصدوعات النفسية السيكولوجية لرجالها، الذين يتحولون في زمن الحرب من هؤلاء المحبين الطيبين إلى آخرين شرسين عنيفين، ينفسون عن مشاعر الهزيمة والانتهاك في نسائهم غضباً وسخطاً وصراخاً وضرباً وأحياناً اغتصاباً، حيث يعتبر ارتفاع نسبة العنف الأسري والزوجي تحديداً إبان الحروب تجاه النساء ظاهرة مثبتة شديدة الخطورة والتعقيد.
يتعقد موضوع العنف ضد النساء إبان الحروب بسبب مشاعر هؤلاء النساء بحد ذاتهن. تتعاطف النساء المعنَّفات مع رجالهن تفهماً لأسباب تغير هؤلاء الرجال وتقديراً للضغوطات الخارقة التي يتعرضون لها. تتستر الكثير من النساء إبان الحروب على رجالهن، ويحاولن كتم أوجاعهن الجسدية والنفسية، في إشارة لحالة تفهم نفسي عميقة للكسور النفسية والجسدية الغائرة التي يتعرض لها الرجال فتغيرهم وتنحو بهم للتنفيس في نسائهم. ولقد شهدنا من خلال التقارير الإعلامية المباشرة خروج بعض الأسرى من السجون الإسرائيلية بأجساد وأرواح منهكة محطمة، حيث تحدثت هذه التقارير عن حالتهم النفسية المتداعية التي غيرت البعض منهم تماماً، وحولت شخصياتهم من حال إلى حال، ومن سيتحمل عذاب الجسد والروح هذا مع الرجال غير نسائهم؟ هذا الحمل الخفي العظيم والمضاف للأحمال الأخرى التي تتعرض لها المرأة في زمن الحروب يجعل عملية البقاء والنجاة عسرة، وأما البقاء والنجاة في حالة إنسانية ونفسية معقولة فتلك تصبح ضرباً من الخيال.
تدفع المرأة الثمن مضاعفاً في كل ظرف صعب وفي كل زمن عصيب، وتدفعه أضعافاً مضاعفة في زمن الحرب تحديداً، حيث ينهكها صراع حربي عادة هي لم «تطلق إبانه طلقة واحدة» حسب تعبير إيف آنسلر، الكاتبة المسرحية والناشطة الحقوقية، وحيث ينتهك روحها الفقد والحرمان والتغريب، وحيث يستهلك كل طاقتها التعذيب النفسي والجسدي الذي إذا تفادت وقعه عليها من العدو فقد لا تتفادى وروده من أقرب المقربين وأكثر المحبين، وحيث يفرض عليها المجتمع بعاداته وتقاليده، والأخلاق والمثل بأحمالها الثقيلة التحمل والصبر والغفران. هل تملك الغزاوية، بل هل تسمح لنفسها، أن تقول «يغور» لرجلها الذي تعلم هي حقيقة العلم بما يعاني ويتحمل نفسياً وجسدياً إبان جريمة الإبادة هذه؟ لا أحد يحاول تفادي الحروب مثل النساء، لا أحد يبذل طاقته في ترميم آثارها مثل النساء، ولا أحد يدفع أثمانها الباهظة مثل النساء. فطوبى لنساء غزة، بطلات القرن الحادي والعشرين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية