دائما ما نطرح على أنفسنا سؤالا نبحث فيه عن شكل العلاقة التي نرتبط بها مع التراث إذا ما أردنا ان نكون معاصرين في كتاباتنا وأعمالنا الإبداعية؟ ربما يبدو السؤال في ظاهره تقليديا ومكررا طالما قد تم طرحه من قبل المشتغلين في عالم الكتابة والإبداع على مدى أجيال تعاقبت في رحلتها ومغامراتها. إلا ان المبدع وهو يتفاعل مع الواقع والحياة يفكر بطريقته الخاصة، ويبتكر عوالمه من مخيلته الجامحة، وسيبقى هذا السؤال يلازمه مهما حاول الابتعاد عنه، وحتى في ابتعاده يعبر بشكل ما عن حضوره بقدر ما يبدو تعبيرا عن غيابه.
فردانية الرؤية
البعض يحدد هذه العلاقة وفق ما يحمله من توق إلى إحداث قطيعة تامة مع التراث، سعيا منه إلى ان يبني مسارا جديدا لتجربته التي يريد لها ان تحمل ملامح عصره في لغته وأسلوبه وبنيته الفنية. فهو يجد في العودة إلى التراث انقطاعا مع ذاته الحاضرة بكل تشظياتها التي شكلتها صور الحياة المعاشة بتفاصيلها وتمظهراتها وتراكيبها اللغوية وحساسياتها، بما يعني التخلي الطوعي عن حيوية حضور الذات في اقتناصاتها واستدراكاتها التي تتلقاها من تدفقات المشهد اليومي المعاش، ولهذا يحاول ان يتجه في تجربته بعيدا عن المستويات التي قد يحملها النص أو البعد التراثي، ربما نجد ذلك بشكل واضح وصارخ في أعمال المعمارية البريطانية العراقية الأصل زها حديد، على سبيل المثال. فالهدف لمثل هذا النموذج ان يكون فضاؤه الإبداعي في إطار مسعاه لتأكيد فردانيته يحمل رؤيته الذاتية بما هي معبأة به من كشف عن هوامش الافتراس والهواجس والأحلام التي انفتحت عليها في مسارها الخاص، أي ان تحمل تجربته بياضها الخاص، وهي تشي بملامحه ورائحته وأسلوبه في التفاعل مع الأشياء والزمن والواقع، بذلك هو يذهب إلى بناء فردوسه الفني خارج حدود التراث ولن يكون معنيا بإحالته إليه.
منظور زمني أم إبداعي
هذا الموقف يفصح في جانب منه ان التراث زمنيا ميت، وليس هناك من ضرورة تفرض العودة إليه، وعلى ذلك سيجد في ارتباط تجربته معه تعني عجز أدواته الفنية في استيعاب مطالعات الزمن الحاضر. ومن وجهة نظر البعض من النقاد والمتابعين ان من يأخذ بهذا المنحى ربما يكون قد اخفق في التوصل إلى فهم التراث لأنه بنى تصورا قائما على وجود قطيعة وعدم تواصل في العلاقة معه، على اعتبار انه قد قرأ هذه العلاقة من منظار زمني، وهذا تصور جامد يبتعد كثيرا عن جوهر العلاقة التي تربطنا مع التراث، والتي ينبغي النظر إليها من منظور إبداعي وليس زمنيا، بمعنى ان عملية التواصل قائمة ما بيننا وبين التراث ولن تنقطع، ولن يكون الزمن حاجزا بيننا وبينه نحن أبناء الحاضر، وهذا ما نجده في أعمال المعماري العراقي رفعت الجادرجي.
قد تغيب العلاقة مع التراث أو تتراجع في لحظة ما، وأسباب ذلك مرتبطة بما يسود من فلسفات في الحراك الثقافي والإبداعي وما تطرحه من تجليات في إطار المناهج والأساليب والمدارس الفنية التي تفرض بالنتيجة مقاربات دلالية تحدد العلاقة مع التراث قربا أو بعدا عنه، ويمكن ملاحظة ذلك في نصوص مسرح العبث واللامعقول على سبيل المثال التي أقصت علاقتها معه وتمحورت موضوعاتها حول الإنسان المعاصر بأزماته وقلقه ورعبه وما يحمله من فراغ في داخله إزاء وجوده ومستقبله.
إلا أننا نستطيع القول ان العلاقة مع التراث من الصعب ان تنفرط إلى حد القطيعة ويسدل عليها الستار، فهل نستطيع مثلا ان نتجاهل التراث المسرحي الإغريقي رغم التحولات الكبيرة التي شهدتها الكتابة للمسرح خلال القرن العشرين بالشكل الذي ابتعدت فيه عن بنية النص الكلاسيكي الذي وصلنا من اسخليوس وسوفكلس ويوربيدس؟ هنا العلاقة لم تنقطع في استدعاء ذلك الموروث الذي استندت عليه تلك النصوص، وكذلك نجدها في أعمال روائية عربية عديدة كما في أعمال جمال الغيطاني الروائية “(كتاب التجليات، الزيني بركات) وكثيرا ما توقفا طويلا عند ماركيز وبورخيس وهما يتحدثان في حوارات اجريت معهما حول تأثير كتاب ألف ليلة وليلة باعتباره واحدا من أهم المصادر التي فتحت أمامها أبواب الخيال والسحر.
قراءة نقدية
نرى ان العلاقة مع التراث لن تأخذ مجالا تقديسيا ولا قطعيا ولا وصفا خارجيا انما تتكشف خاصيتها بتواصل قائم على قراءة تفاعلية نقدية تتخذ أشكالا مختلفة ومتنوعة وبدرجات متفاوتة من حيث البروز بشكل واضح في معظم الفنون الإبداعية.
إن فهم العلاقة مع التراث في منظور الثقافة الغربية لا يحمل تلك الحساسية وذلك الانغلاق الذي قد نجده في الثقافة العربية، ربما أسباب ذلك تعود إلى ما تعيشه الثقافة العربية تاريخيا من هزيمة نتيجة ما يحصل من انكسارات في الواقع.
التراث يتجدد في حضوره وفاعليته طالما هناك تجديد في الرؤى والأساليب في المشغل الإبداعي، وكلما نقف عند تجارب تخرج عن إطار ما هو كائن من أنماط في المعالجات سنكون أمام حساسية جديدة تمكنها من إعادة النظر في المفاهيم والمصطلحات وهذا بالتالي سيؤدي إلى تجديد العلاقة مع التراث، وفق هذا المنظور تتبلور قراءتنا للنصوص والأعمال الإبداعية التي يكون التناص في بنيتها مصدره التراث.
إن مسألة كيف نقرأ التراث لها صلة برؤيتنا لهذا العالم، بأساليبنا التي نطرح بها أفكارنا، بأسئلتنا التي نطرحها على أنفسنا ونحن نقرأ ذاتنا، بأجوبتنا التي نحدد بها أطر ثقافتنا وحاضرنا. فالعودة إلى التراث ليس لأجل التراث ذاته بقدر ما هي جزء جوهري من أدواتنا المعرفية في البحث عن أجوبة دائما ما يطرحها علينا وجودنا، فالعتبة الأولى في تحديد هذه العلاقة تعود إلى مدى استعدادنا لإعادة النظر بما نحمله من مفهوم عن الماضي، وستبقى هذه العلاقة حيوية ومتحركة وتنبض بالحياة وبكل ما هو جديد إذا ما ابتعدنا عن رؤية التراث باعتباره زمنا ماضيا، مقطوعا عن الحاضر تشكَّل على صيغة ما وانتهى ولم يعد ممكنا ان نكتشف فيه مستويات جديدة من الفهم، بمعنى أوضح تتحدد هذه العلاقة من خلال فردانية ذاتنا، وليس من خلال ما تم الاتفاق عليه من مفهوم معجمي متداول اكتسب صفة مطلقة تربطه بالماضي .
الاشكالية في الذات
ان ذاتنا الثقافية تتشكل من وعينا النقدي بالموروث بعيدا عن سلطة التقديس، بهذا الشكل تتواصل العلاقة بيننا وبينه، فإشكالية العلاقة ليست منبعها التراث ذاته انما في داخلنا، في ذاتنا وليس خارجها، في حاضرنا وليس في ماضينا، فالإشكالية تنتجها مفاهيمنا التي ننطلق منها في رؤية الأشياء ومنها التراث، وإلى ماذا نسعى إذا ما أردنا العودة إليه، وهذا يعني ان تكون قراءتنا تأويلية تتقصى الكشف عن دلالات جديدة في الموروث وليس ترجمة وتفسيرا وشرحا.
ولأجل ان تتشكل هذه العلاقة في الإطار الذي يمنح الذات استقلاليتها وحضورها وهويتها، سيكون من المنطقي الانفتاح على ثقافة الآخر المختلف، بما في ذلك ميراثه، بنفس الرؤية التي ننظر بها إلى موروثنا.