يسيرُ لبنان في مسار انحداري نحو القعر بسرعة تخفُّ حيناً وتقوى حيناً آخر. لم يكن السؤال عما إذا كان الارتطام سيحصل بل متى. ضُربت مواعيد عدة منذ ثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019، ولم يحصل ذلك. قُمع شباب «الثورة» أمام برلمان الأمة في وسط بيروت، الذي يُجسِّد دستورياً صوت الشعب ويمثّلهم، على يد «شبّيحة السلطة». فُقِئَتِ العيون بالرصاص المطاطي لشرطة مجلس النواب. انطفأت الاحتجاجات كلياً ولا سيما بعدما تفشّى وباء كورونا في شباط/فبراير 2020 وكأن شيئاً لم يكن.
وَضعتِ المصارفُ يدها على أموال الناس وجنى عمرهم بتعاميم من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بالتكافل والتضامن مع السلطة السياسية حتى تاريخ انتهاء ولايته في نهاية تموز/يوليو الماضي، ولا تزال تُمعن في إذلال المواطنين وقد تستمر لسنوات، فيما هدرتْ «سياسة الدعم» مليارات الدولارات من الاحتياطي الإلزامي للمصارف في عهدة «المركزي» والتي هي عملياً أموال المودعين، ويريد المتحكمون بالسلطة من الحاكم بالإنابة وسيم منصوري أن يواصل السير على خطى سلفه، لكنه يطلب غطاءً قانونياً ليفعل ذلك، ويرمي كلّ من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب الكرة في ملعب الآخر، ما يُنبئ بأيام صعبة قادمة سواء على مستوى تمويل الدولة لدفع الرواتب والأجور، أو لتأمين المشتريات بالعملة الصعبة، أو التدخل في السوق الموازية.
ما جرى أن سلامة أمَّن لنفسه خروجاً آمناً من حاكمية المصرف المركزي عبر توفير مستحقات شهر تموز/يوليو عبر «منصّة صيرفة»، البدعة التي أنشأها الحاكم السابق لتقطيع الوقت على حساب الاحتياطي، وأوقفها الحاكم الحالي وسط خلاف مُستحكم بين رؤيتَي الحاكمية والحكومة التي تبحث عن سبل لتمرير قطوع الاستحقاقات المالية ولا سيما المتعلقة بتسيير ما تبقى من مؤسسات الدولة وإداراتها والمرفق العام والأسلاك العسكرية والأمنية نهاية شهر آب/أغسطس، وهي استحقاقات إن نجحت في اجتيازها هذا الشهر فقد لا تستطيع ذلك في الشهر المقبل أو الذي يليه، بعدما ضاقت هوامش الترقيع والاحتيال والهروب إلى الأمام، وبعدما خفَّ تدفق أموال المساعدات الإنسانية بفعل أزمة اللجوء السوري وتداعيات فيروس كورونا، وتفجير مرفأ بيروت الذي وقع في 4 آب/أغسطس 2020.
تفجير المرفأ الذي وُصف بأقوى ثالث انفجار غير نووي في العالم، ودمَّر نصف العاصمة وقتل ما يزيد على المئتين وجرح الآلاف، والذي تسبَّبت به نيترات الأمونيوم المخزَّنة في العنبر رقم 12، كان كفيلاً بأن يُطيح بالطبقة الحاكمة بعدما تبيَّن أن تخزين النيترات مجهول-معلوم وحصل بتواطؤ، أو على أقل تقدير، بإهمال سياسي – إداري – قضائي – أمني، فيما القطبة المخفية تدور حول الجهة التي كانت تذهب إليها النيترات بعدما قدَّر الخبراء الكمية التي انفجرت بـ500 طن من أصل 2750 طناً هي حمولة السفينة قبل تفريغها.
جريمة العصر الموصوفة والتي أُطلق سراح كل الموقوفين فيها على ذمة التحقيق، تحوَّلت مع الذكرى الثالثة لوقوعها إلى مجرد ذكرى بعد تعطيل التحقيق اللبناني وترهيب المحقّق العدلي ومقتل شهود محتملين. اللافت أن الذكرى هذه السنة ترافقت مع ارتفاع منسوب الكلام عن قصف إسرائيلي للمرفأ ومطالبات بالذهاب إلى تحقيق دولي يرى فيه بعض المراقبين أنه يهدف إلى حشر «حزب الله» المتهم بتخزين النيترات. في المحصلة، أُلحقت قضية المرفأ بغيرها من القضايا المُخَزّنة التي تضيع فيها المحاسبة والعدالة في دولة تؤكد الأحداث اليومية فيها أنها دولة معلّقة تحكمها سلطة يغمرها الفساد وتغطيها دويلة سلاح ينتقل بين كل المناطق اللبنانية ويُخزَّن فيها.
فخبر انقلاب شاحنة لـ«حزب الله» في التاسع من آب/أغسطس على الطريق الدولية في منطقة الكحالة في قضاء عاليه قادمة من البقاع، ومُحمّلة – وفق التقديرات – بالسلاح ليس أمراً جديداً. شاحنات السلاح تمرُّ تحت أعين السلطات الأمنية وأجهزتها بغطاء سياسي من السلطة السياسية التي تتعامل مع سلاح «حزب الله» بوصفه سلاحاً مقاوماً مغطّى بالبيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة التي تتبنى معادلة «جيش وشعب ومقاومة» بحيث على الدولة أن تؤمّن الغطاء لمستلزمات «المقاومة» التي أضحت مرادفاً لاستباحة الداخل اللبناني ومحاولة إخضاعه الكليّ للنفوذ الإيراني، والانخراط خارجياً كذراع عسكرية إيرانية في ساحات عدة وريادة شبكات دولية في الاتجار وتهريب المخدرات والسلاح وتنفيذ الأعمال غير القانونية.
فكل القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن لم تنفع في توفير غطاء لضمان سيادة الدولة. المثال الأبرز هو القرار 1701 والذي صدر عقب حرب تموز/يوليو 2006 بين إسرائيل و«حزب الله» والذي ينصُّ على إخلاء منطقة جنوب الليطاني من أي وجود مسلّح غير شرعي، وتمَّ نشر قوات أممية إضافية لضمان تنفيذ القرار، فإذا بتلك المنطقة تسقط بيد «حزب الله» على مرأى من قوات الطوارئ والجيش اللبناني حيث يُخزَّن السلاح في الأنفاق، وحيث تتمُّ المضايقات للقوات الدولية تحت مسمى «تحركات الأهالي»، وتحصل الاستفزازات على الشريط الحدودي مع إسرائيل، فيما يتعامل «الحزب» مع عديد القوات الدولية على أنهم رهائن محتملون في أي نزاع قد يحصل.
رسائل سياسية
ولكن ثمة مشهداً أمنياً بات مقلقاً على الساحة اللبنانية، تتنقل فيه التوترات بين منطقة وأخرى، وتأخذ أشكال احتكاكات ذات أبعاد طائفية تتضمن رسائل سياسية في العمق. فحين وقعت في تموز/يوليو الماضي أحداث «القرنة السوداء» في شمال لبنان، بين الضنية وبشرّي، كانت الرسالة تتجاوز قضية الخلاف على المياه والمراعي. لملمتْ بشرّي – مسقط رأس رئيس «حزب القوات اللبنانية» سمير جعجع غضبها بعدما دفنت اثنين من شبابها، وعضَّت على الجراح بانتظار عدالة الدولة. كانت التقديرات تذهب إلى أن خلف استخدام أبناء الضنية السُّنية السلاح في وجه أبناء بشرّي المسيحية أيادٍ أخرى تحرّكها، تصبُّ عند «حزب الله» الذي يحاول اختراق مناطق الشمال عبر تشكيلات «سرايا المقاومة « التابعة له وتقديم الخدمات، وعبر دعم قوى سياسية سنيّة تتماهى مع خطه السياسي.
حَمَل ما جرى في بشرّي رسالة مُعلنة أو مُبطنة. ولكن حصل الأسبوع الماضي أن وُجد مسؤول قواتي (الياس الحصروني) من بلدة عين إبل الجنوبية، وهي قرية مسيحية في قضاء بنت جبيل، ميتاً داخل سيارته على جانب الطريق قرب بلدته. تعامل تقرير الطبيب الشرعي والقوى الأمنية مع الوفاة على أنها ناجمة عن حادث سير. بعد أيام كشف شريط فيديو من إحدى كاميرات المراقبة عن حصول كمين للحصروني وخطفه وقتله ورميه داخل سيارته على قارعة الطريق. في القراءة الأمنية لشريط «الفيديو»، فإن الجناة محترفون؛ سيارات من الدفع الرباعي تُحاصر سيارة المجني عليه، ويستقلها أحد المنفذين ليغادر الجميع تلك النقطة الجغرافية خارج عدسة الكاميرا. لم تكن القصد من العملية أن تكون رسالة، لأن الجناة المحترفين أرادوا التخلّص من شخص المغدور المؤثر في قريته بهدوء ودون إحداث ضجة أو انتباه وإلا كانوا استخدموا الرصاص لتوجيه الرسالة. هوية مَن يسيطر على المنطقة أمنياً ومن لديه القدرات الاحترافية ومن يتحكم بالأجهزة الأمنية لا تحتاج إلى كثير من التدقيق والعناء. انكشفت الجريمة التي لا يراهن أحد أن يظهر منفذوها، وستبقى في دائرة التكهنات عما إذا كانت الحادثة جزءاً من المواجهة المعلنة بين «حزب الله» و«القوات».
في نظر «محور الممانعة» يُشكِّل جعجع تجسيداً للمشروع الأمريكي – السعودي في المنطقة، الذي هو نقيض مشروع إيران حيث يهدف «حزب الله» إلى جعل لبنان ملحقاً به. وقد نجح «الحزب» في العام 2006 – من خلال تحالفه مع صاحب التمثيل الأوسع لدى المسيحيين العماد ميشال عون عبر «وثيقة مار مخايل» – أن يضمن غطاءً مسيحياً لسلاحه ولمشروعه في البعد الإستراتيجي مقابل مكاسب في السلطة والنفوذ داخلياً. على أن حجم التمثيل المسيحي لعون رغم وصوله إلى سدة رئاسة الجمهورية عام 2016 تراجع، إذ أظهرت انتخابات 2022 ارتفاع نسبة التأييد المسيحي لجعجع على حساب وريث «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي انحسر في بيئته المسيحية، وكان على «حزب الله» أن يُجيِّر أصواته لصالح مرشّحي «التيار» في مناطق نفوذ «الثنائي الشيعي» لكي يضمن لباسيل الحفاظ على كتلة وازنة في مواجهة جعجع.
النفوس مشحونة
الاحتكاكات المناطقية التي تحصل بين الحين والآخر تُظهر ضيق صدر اللبنانيين المناهضين لهيمنة «حزب الله» وكمْ أن النفوس مشحونة. الأحداث عديدة: مِن النزاع على الأملاك مع الكنيسة في لاسا وجرد العاقورة في قضاء جبيل في جبل لبنان الشمالي، حيث توجد قرى شيعية وسط بيئة مسيحية، إلى الاحتكاكات على خط التماس بين منطقتَي الطيونة وعين الرمانة في جبل لبنان الجنوبي، والإشكالات الدائمة مع العشائر العربية في خلدة ومع أبناء الناعمة على خط الساحل تجاه الجنوب، وإلى شويا في قضاء حاصبيا التي أقدم أبناؤها الدروز على توقيف شاحنة محمّلة بالصواريخ لـ«حزب الله».
ما يهمُّ «الحزب» هو أن تبقى خطوط إمداده مفتوحة، سواء من دمشق إلى بيروت، أو من بيروت إلى الجنوب، وحيث تقتضي الحاجة تواجده على القمم الجبلية والنقاط الإستراتيجية، وأن تبقى المنظومة الأمنية اللبنانية من جيش وقوى أمن داخلي وأمن عام وأمن دولة والقضاء العسكري تعمل في خدمة أجندته تحت ستار «المقاومة» المشرعَنة. واقع الحال في التعامل الرسمي اليوم أنه ينظر إلى سلاح «حزب الله» على أنه سلاح مقاوم وليس متفلتاً أو غير قانوني، وأنه غير قابل للمصادرة أو المحاسبة، بعكس أي سلاح قد ينتشر مع أطياف لبنانية أخرى، لكن المسألة ما عادت تتعلق بوجود الغطاء الرسمي لسلاح «الحزب» بل أضحت عنوان رفض مجتمعيّ من قبل البيئات اللبنانية المختلفة وباتوا يتواجهون معه.
تعامل بيان «حزب الله» الصادر بعد حادثة «كوع الكحالة» مع سلاح أبناء البلدة بوصفه سلاح الميليشيات الموجودة فيها، وهو كان يقصد «القوات» و«الكتائب اللبنانية»، لكن الشاب الذي سقط من أبناء الكحالة أمام كنيسة البلدة هو من المناصرين لعون الحليف المسيحي لـ «حزب الله». سخرية القدر أن باسيل خرج في تلك اللحظة ليوظف الحادثة في خدمة أجندته الرئاسية، إذ اعتبر «أنَّ من يؤمِّن ظهر المقاومة ليس شخصاً بل شعب». فالسردية التي يتبناها «حزب الله» لتبرير دعمه سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية هي أن هذا الاسم «يحمي ظهر المقاومة»، فيما يعتبر باسيل أنه من خلال العونيين كـ»شعب» كانت حماية ظهر المقاومة مؤمنة ويمكن إعادة تأمينها ثانية، إن حصل توافق من جديد.
قبل حادثة الكحالة، سُجلت حالة من الاستياء اللبناني الرسمي الضمنيّ من التحذيرات الخليجية وفي مقدمها السعودية التي دعت رعاياها إلى مغادرة لبنان. نجم الاستياء من أن لبنان يعيش موسماً سياحياً ويعجُّ بأعداد كبيرة من السيّاح ولا سيما من العراقيين والأردنيين والمصريين والأهم من المغتربين اللبنانيين الذي جاؤوا لقضاء عطلة الصيف، ومعهم العملة الصعبة من «الفريش دولار» سيصرفونها في البلاد، وأن هذه التحذيرات ستخلق قلقاً وبلبلة ستستدعي تقصير هؤلاء المغتربين لعطلتهم. لم ينجح أحد من المسؤولين اللبنانيين ولا القوى السياسية في فك طلاسم التحذيرات الخليجية والتي تبعتها تحذيرات أوروبية بتوخي الحذر. تعددت القراءات، البعض ربط التحذيرات بأحداث «عين الحلوة» التي وقعت في أخر شهر تموز/يوليو الماضي بين تنظيمات إسلامية متشددة وبين حركة «فتح» على خلفية اغتيال قائد قوات الأمن الوطني الفلسطيني القيادي الفتحاوي أبو أشرف العرموشي، والتي امتدت لأيام قبل أن يتم احتواؤها مؤقتاً دون أن تظهر حلول ناجعة، في ظل شكوك وريبة حول توقيت تلك الأحداث والرسائل الداخلية والإقليمية التي قد تكون كامنة وراءها خصوصاً أنها ترافقت مع مصالحة فلسطينية – فلسطينية كانت ترعاها مصر ولم تكن حركة «الجهاد الإسلامي» حليف إيران جزءاً منها.
وعزا البعض الآخر الانفجار المفاجئ في المخيم إلى محاولة من اللاعبين الإقليميين لتعزيز أوراقهم من خلال السعي للإمساك بمخيم «عين الحلوة» فيما المنطقة بأكملها تعيش حالة من التوترات والترقب في صيف لاهب. وخمَّن آخرون أنها انعكاس لتعثر الاتفاق الإيراني – السعودي. وهناك مَن رأى في التحذيرات رسائل سياسية للبنان ودعا إلى التعامل معها بجدية في ظل معلومات ترددت عن أن المجموعة الخماسية بشأن لبنان، والتي تضم ممثلين عن أمريكا وفرنسا والسعودية ومصر وقطر، طرحت في اجتماع الدوحة مسألة اتخاذ إجراءات منع سفر إلى لبنان كورقة ضغط سياسي، دون أن تتبناها، واكتفت بالإعلان عن بحثها خيارات محددة تتعلّق باتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين يُعرقلون إحراز تقدّم في استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية. قد تجد تلك القراءات مؤشرات تعززها، لكن خطوة كتلك، في رأي خبراء أمنيين، لا تحصل عادة دون وجود معلومات أمنية واستخباراتية دقيقة تستدعي اللجوء إليها.
مهما كانت مبررات التحذيرات الدبلوماسية، فإن الاحتقان الذي برز جراء حادثة الكحالة يُؤشِّر إلى أن لبنان برمته يقف على فوهة بركان، حيث إن كل مناطقه باتت مفتوحة على احتمال توتر أمني قد يكون محدوداً وقد يتوسَّع وينتشر إلى مناطق أخرى، وقد يكون بخلفيات سياسية أو وليدة الانهيار المتمادي اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وضيق الحال وانسداد الأفق السياسي وسط موعد جديد بإمكان أن يحمل شهر أيلول/سبتمبر الترياق الرئاسي وخارطة الطريق لحل الأزمة التي تعتريها هشاشة سياسية قاتلة، وعليه يمكن توقّع المصير الذي ينتظر لبنان واللبنانيين.