لا شك في أن الأزمة الأوكرانية، هي من الأزمات المثالية والمرتجاة للحركة الصهيونية العالمية وللحكومة الإسرائيلية كذلك، إذ إنها الحالة المناسبة لدفع اليهود في أوكرانيا إلى الهجرة، وأن تكون إسرائيل من الوجهات المقصودة، خصوصا إذا ما وفرت الحركة الصهيونية تسهيلات نفقات السفر وأماكن الإيواء والنقل والتنقل، ووعود العمل والسكن.. إلخ.
وكانت دعوات سابقة قد حثت يهود أوكرانيا على الهجرة، من قبيل ما ذكره الحاخام الأكبر في أوكرانيا من ‘أن على اليهود الهجرة من البلاد’، في وقت كان نتنياهو قد ذكر قبل أشهر قليلة ‘إن علينا العمل من أجل جلب مليون مستوطن يهودي لحسم المعركة مع الفلسطينيين على المستوى الاستراتيجي’. وها هي الأزمة الأوكرانية تقدم لنتنياهو ولغيره من الزعماء الصهاينة بعض ما يتمنون.
صحيح إن الحكومة الإسرائيلية تتعامل بحذر مع الأزمة الحالية في أوكرانيا، إلا أن أبوابها مشرعة دائما لاستقبال أي مهاجر يهودي تطأ قدماه الأراضي المحتلة. كما أن أجهزة الحركة الصهيونية تمارس دورها وتحريضاتها وإغراءاتها من داخل أوكرانيا ومن خارجها، في أوساط اليهود لحثهم على الهجرة إلى إسرائيل. ومع إنه لم تحصل إيذاءات ومضايقات واسعة تجاه اليهود حتى اليوم، إلا أن جميع من له مصلحة في الهجرة ينتظر، أو يحرك أدواته في التأثير والدفع لتحقيق غاية الهجرة المرجوة.
ويمكن الإشارة هنا إلى أن السلطات الإسرائيلية استقبلت مؤخرا غينادي كيرتس رئيس بلدية خاركوف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا بعد إصابته بالرصاص في ظهره لدى محاولة اغتياله في 28/4/2014، وذكرت وسائل الإعلام أنه أجريت له عملية عاجلة في أحد مستشفيات مدينة حيفا، وأن العملية تكللت بالنجاح، ولم تعرف أسباب محاولة الاغتيال، هل لكونه يهوديا أو لانحيازه إلى الجانب الروسي، أو للسببين معا؟
ما عدد اليهود الذين استمروا في العيش في بلادهم أوكرانيا، بعد الهجرات التي سبقت تفكك الاتحاد السوفييتي، وبعد حصول أوكرانيا على استقلالها عام 1991؟ وهل كل من هاجر اتجه إلى إسرائيل، أم إن بلدانا أخرى كانت مرغوبة ومقصودة؟ وما عدد اليهود الأوكرانيين في إسرائيل، وما هي توجهاتهم؟ بحسب نشرة الإحصاء التي أوردتها وكالة ‘نوفوستي’ الإعلامية السوفييتية، فإن عدد السكان اليهود في الاتحاد السوفياتي كله عام 1989، كان 910376 مواطنا، في حين أن عدد اليهود في أوكرانيا في ذلك العام كان 485975 مواطنا، بعد أن كان عددهم 632610 مواطنا عام 1979. وهذا يؤشر إلى أنه هاجر نحو 147 ألفا خلال السنوات العشر السابقة. فما العدد الذي توجه إلى إسرائيل من بين آلاف اليهود الأوكرانيين؟ تورد الإحصائية أنه سمح بمغادرة 24 ألف يهودي من الاتحاد السوفييتي والتوجه إلى إسرائيل في الفترة من 1948 وحتى 1977. في حين انه غادر الاتحاد السوفييتي كله نحو 300 ألف يهودي منذ عام 1948 وحتى 1988، والاستقرار في بلدان أخرى عبر القنوات الإسرائيلية، بحسب ما جاء في النشرة الإحصائية المشار إليها. وتذكر أيضا إن مجموع من هاجر إلى إسرائيل في الفترة من 1948 وحتى 1988 من اليهود السوفييت بلغ 120 ألف نسمة، ومن ضمنهم يهود من أوكرانيا بطبيعة الحال.
ويمكن الإشارة، وبحسب ما جاء في النشرة الإحصائية، الى أن نسبة اليهود الذين يعتبرون اللغة العبرية أو اليديشية لغتهم ‘القومية’ كانت 7.1 ‘ من بين اليهود الأوكرانيين عام 1989. بينما يشير موقع ‘الجزيرة نت’ الإلكتروني الى أن نحو 330 ألفا من يهود أوكرانيا هاجروا إلى إسرائيل منذ تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، بينهم 2200 هاجروا عام 2013. وذكر الموقع أيضا أن عدد المتبقين في أوكرانيا من اليهود نحو 200 ألف، يعيش معظمهم في مدينتي كييف وأوديسا التي وصلها حريق الخلافات أيضا. وإذا ما توخينا الدقة، وقارنا أرقام النشرة الإحصائية بالأرقام الواردة في ‘الجزيرة نت’، فإن الرقم الدقيق لمن تبقى في أوكرانيا من اليهود هو نحو 155 ألف شخص. فما هي توجهات ومواقف يهود الاتحاد السوفييتي في إسرائيل نحو مليون ونصف المليون شخص بحسب بعض المصادر، بمن فيهم اليهود من أصل أوكراني؟ في بحث أجراه الاستاذ الدكتور ماجد الحاج، أحد أبرز علماء الاجتماع في الأراضي المحتلة عن ومع المهاجرين الروس، بمن فيهم الأوكرانيون وأحد مساعديه في الدراسة مهاجر أوكراني يعمل محاضرا وباحثا في جامعة حيفا اسمه روني، توصل إلى نتائج مهمة، من بينها: إن المــــهاجرين من الاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينات وبداية التسعـــينات من القرن الماضي، يتخذون مواقف معادية من العرب، ومواقف يمينية متطرفة عموما في السياسة. كذلك يحافظون جدا على تميزهم عن بقية اليهود الآخرين ويتمسكون بثقافتهم، ويستخفون بالثقافة الإسرائيلية، ولا يعترفون حتى بوجودها. وعلى الرغم من مرور أكثر من عقدين على هجرتهم إلى إسرائيل، ما زالوا يستخدمون لغة بلادهم الأصلية، أي اللغة الروسية وغيرها في تخاطبهم في بيوتهم. إذ ذكر 77’ منهم أن اللغة الروسية هي لغة التخاطب الوحيدة أو الأساسية عندما يلتقون متكلما بالروسية. ولم يكونوا على عداء كبير مع العرب في بداية هجرتهم، لكنهم أرادوا أن يكونوا مقبولين في المجتمع الإسرائيلي، فوجدوا ان العداء للعرب موقف إجماعي في إسرائيل، فأصبحوا أكثر تشددا حتى يتم قبولهم في المجتمع الإسرائيلي.
مع ذلك فإن البروفيسور الحاج ما زال يرى أن اليهود الروس وغيرهم من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، قوة براغماتية لا تنغلق على شيء، ففي حال نشوء ظروف أخرى تتيح الانفتاح على الطرف الآخر، فسيكونون في صف القوى المتمتعة بالمرونة.
لذا فإن كانت الهجرة إلى الأراضي المحتلة، هي من الموجات التي بقيت فاعلة ومحرضا عليها، منذ ما قبل نشوء الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر وحتى اليوم. مع ذلك فإنها، خصوصا منها الهجرة إلى فلسطين المحتلة، تواجه بتحفظات كثيرة من مواطنين كثر، وبعضهم رافض وغير مشجع لها، ويستحسن البقاء في وطنه، كغيره من المواطنين الذين يدينون بدين آخر غير الدين اليهودي، ويفضلون الاستمرار في حياتهم العادية ونشاطهم وعملهم كغيرهم من المواطنين، أو يفضلون الهجرة إلى بلدان أخرى غير إسرائيل.
‘ كاتب فلسطيني