هذا الكتاب هو الجزء الأول من مذكرات محمد سلماوي، الذي عرفناه وعرفته الثقافة العربية صحافيا كبيرا في جريدة «الأهرام» وصحفها مثل «الأهرام ويكلي» الإنكليزية و»الأهرام إبدو» الفرنسية وكاتبا للمقالات وكاتبا مسرحيا وروائيا، فضلا عن مناصب تولاها في الحياة الأدبية، منها رئاسته لاتحاد الكتاب المصريين التي كانت من أجمل سنوات الاتحاد ثقافة وعملا ونشاطا لم تتكرر.
المذكرات هنا بين عام ميلاده 1945 وعام 1981 الذي شهد مقتل الرئيس السادات. الكتاب من إصدارات دار الكرمة، ويقع في أكثر من أربعمئة صفحة. الفصول الأولى عن أصل العائلة العربي من الحجاز، فأحد قادة عمرو ابن العاص حين دخل مصر كان اسمه علي بن عسر من قبيلة سلمى في الجزيرة العربية، لذلك كان يدعى علي السلماوي. لقد وصل اهتمام الكاتب محمد سلماوي بالأمر إلى درجة أنه وهو يكتب الكتاب تمكن من إجراء اختبار جيني في أحد أكبر معامل تحاليل الجينات في الولايات المتحدة، ليجد أن التكون الأكبر في جيناته 14.6٪ هو مكوِّن عربي، بينما توزعت المكونات الأخرى على افريقية ومتوسطية بدرجات أقل. رحلة ممتعة مع تاريخ العائلة التي تولى أجداده فيها عمودية القرى التي عاشوا فيها، وتتساءل كيف أن أصوله البورجوازية الراقية لم تمنعه من مشاركة المصريين حياتهم، يدافع عنهم ويدفع الثمن من عمله وحياته. درجات البكوية التي حصل عليها جده وأعمامه وأخواله، وحديث عن والده سلماوي محمد وعلاقاته من الملك فاروق إلى كبار رجال الدولة والصحافة. كيف كانت تربيته بين ثلاث مربيات أجنبيات متتاليات وسط ما يحدث في مصر والعالم، وسفر والده وأمه كثيرا إلى الخارج منها رحلة لأمريكا مرورا بلندن والتحاق والده وأمه بمعهد ديل كارنيجي للتنمية الذاتية في نيويورك والصداقة مع مستر كارنيجي وزوجته.
من الطريف أنه يوم تخلصوا من المربية الإنكليزية جافة المشاعر عام 1951 وكان هو في السادسة من عمره أن قال، تخلصنا من الاستعمار البريطاني قبل الجلاء. تأتي رحلة الحياة في القاهرة للأب والأم في عمارة ليبون في الزمالك وأكثر من فيللا في الجيزة وكذلك المعادي، ورحلة تعليمه وكيف كان للمربية الفرنسية جان كارمل، فضل معرفته بالفرنسية في وقت مبكر، هو الذي كان تعليمه بالإنكليزية. كانت تعلمه الفرنسية من أغاني إديث بياف وجاك بريل وداليدا، فهام بالأغاني والموسيقي، وكيف كانت أمه المولعة بالرسم بابا لتفتح مواهبه الفنية في بيت امتلأ بالإسطوانات الموسيقية لكبار الموسيقيين مثل، بيتهوفن وغيره. أحاديث تفتح كنوزا بالمعرفة عن موسيقيين عالميين ومصريين مثل، عبد الرحمن الخطيب شقيق كل من سليمان جميل وفايدة كامل والسوبرانو أميرة كامل، وكان صديقا للعائلة يتردد عليهم في عمارة ليبون حتى هاجر إلى إنكلترا.
أسماء شهيرة كثيرة في الحكم والصحافة كانت تترد على العائلة.. تعليمه المزدوج في الجامعة الأمريكية وكلية الأداب معا ثم الاكتفاء بكلية الآداب ومشاركاته في الإخراج المسرحي والتمثيل أحيانا، ومعرفته برشاد رشدي في الجامعة وانجذابه للكتابة المسرحية. يتم ابعاده عن العمل في جريدة «الأهرام» مرة مع بيان توفيق الحكيم الشهير عام 1973 الذي طالب بالحرب وتحرير سيناء، ومرة بعد مظاهرات يناير/كانون الثاني عام 1977 وفيها عرف السجن. بين ذلك كله قصة حبه للفنانة التشكيلية الكبيرة نازلي مدكور. مصاعب قصة الحب ورفض عائلتها بلا سبب، وانقطاع الصلة بينهما حين سافر إلى سترادفورد في دورة دراسية لشكسبير، وطال به الوقت، وبكاؤه كل ليلة رغم اقتراب صديقة إيطالية منه. صفحات مؤلمة للحب العظيم الذي كُلل بالزواج بعد عودته، دون أن تعلم عائلة حبيبته التي كانت ترفض الزواج فرضخوا للأمر الواقع. صفحات رائعة عن عمله في جريدة «الأهرام» ولقائه بمحمد حسنين هيكل وحديث فائق الجمال عن سَكنَة الدور السادس في «الأهرام» توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس.
في الكتاب رحلات مذهلة في أوروبا وآسيا ولقاءات رائعة مع المشاهير في العالم من الساسة والفنانين يؤلمك منها يوم سفره إلى الهند للقاء أنديرا غاندي، بعد أن تركت الحكم وجاءت حكومة ديساي الموالية للولايات المتحدة، وفي الطريق إليها بعد أن تحدد الموعد وجدهم يقبضون عليها ويضعون الكلابشات الحديد في يديها وينقلونها في عربة الشرطة.
توفيق الحكيم الذي تزوج ابنه الموسيقار إسماعيل الحكيم «هداية» أخت محمد سلماوي. يصل بك إلى صفحات لا تنسي عن تجربة السجن وظلامه بعد مظاهرات يناير عام 1977 ومعه أسماء شهيرة مثل حسين عبد الرازق وفيليب جلاب وغيرهما. عالم السجن والسجانين بين ضحك وبكاء. شهر كان مثل أعوام طويلة ومساجين جنائيين لا يريدون مفارقة السجن وبينهم سجين محكوم عليه بالإعدام، وكيف يقابل الأمر بروح مرحة. انتظار الحكم بعد العرض على المحكمة بعد شهر واحد فالقانون كان يحدد أقصى مدة للحبس الاحتياطي شهرا وليس عامان، كما هو الحال الآن! بين هذا كله صور لكل من يتحدث معهم أو عنهم من الكتّاب والمفكرين والمساجين وقبلهم أفراد عائلته، رجالا ونساء. صور وخطابات تزيد من جمال الكتاب بشكل عظيم، وتكاد تحتل ثلث صفحاته حتى نصل إلى المحنة الكبرى حين سافر إلى أستراليا لإجراء حوار صحافي مع رئيس وزرائها مالكولم فريزر عام 1981، وكيف عرف من رئيس الوزراء نفسه أنه قد وضع في اليوم نفسه في قائمة السادات من المغضوب عليهم، وكيف أن في رجوعه خطرا كبيرا. عرف رئيس الوزراء ذلك من سفارة أستراليا في القاهرة. ورغم عرض رئيس وزراء أستراليا عليه اللجوء السياسي فإنه يعود.
رحلة عودة طويلة على الروح، ودموع عرفتها ليال فهو لا يستطيع مفارقة زوجته وطفليه سيف وسارة. يفعلها ويعود لكن لا يتم القبض عليه. لقد تم فصله للمرة الثالثة، وكواليس ذلك ومن الذي أضاف اسمه من صحافيي «الأهرام» طبعا لم يكن وحده. كان هناك الآلاف، يذكر أسماء بعضهم كمثال. ينتهي كل شيء بمقتل السادات الذي عاد بالبلاد إلى عكس ما كانت عليه في الاقتصاد والسياسة، والذي فرّخ لنا الإرهابيين مع أمريكا والسعودية بتدريبهم على القتال وإرسالهم لأفغانستان ليعودوا بعد ذلك ينتشرون في مصر والعالم العربي وأوروبا الشرقية، والذي تصالح مع إسرائيل. كيف صار ابن العائلة الكبيرة مدافعا عن إنجازات عبد الناصر؟ المفتاح في كلمة أبيه له وأخوته يوم تم تأميم ممتلكاتهم، بأن عبد الناصر لن يأخذ ما تم تأميمه لنفسه، بل يريد شيئا من العدالة الاجتماعية. وحين فعل السادات العكس في الاقتصاد وجد أبوه ذلك جيدا، فكانت دهشة محمد سلماوي، لكنه أدرك حكمة الأب أن يتعايش مع ما يجري. لكن محمد سلماوي كان قد انتقل إلى معسكر العدالة الاجتماعية والقومية العربية وتحرير فلسطين وانتهى الأمر.
في الكتاب رحلات مذهلة في أوروبا وآسيا ولقاءات رائعة مع المشاهير في العالم من الساسة والفنانين يؤلمك منها يوم سفره إلى الهند للقاء أنديرا غاندي، بعد أن تركت الحكم وجاءت حكومة ديساي الموالية للولايات المتحدة، وفي الطريق إليها بعد أن تحدد الموعد وجدهم يقبضون عليها ويضعون الكلابشات الحديد في يديها وينقلونها في عربة الشرطة.
عنوان الكتاب هو من سورة «المؤمنون» الكريمة: «قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون» الكتاب يعكس هذا الايمان والتواضع العظيم، رغم عظمة الرحلة.
وقبل النهاية أشير إلى معنى فلسفي جميل يلخص الرحلة يتلخص في ولع الكاتب بعشبة «كف مريم» في طفولته وهي العشبة المنغلقة على نفسها كما كان هو في صباه منطويا حالما. العشبة البائسة التي تتقاذفها رياح ورمال الصحراء في كل اتجاه لكنها ما أن تجد البيئة الصالحة حتى تدب فيها الحياة، فكان وهم يقطنون في المعادي والصحراء حولهم يعود بواحدة منها يغرسها جوار مدرسته الابتدائية ويجدها بعد أيام قد ازدهرت. انقطع عن المعادي طويلا حتى عاد إليها بعد الزواج ليجد شجرة نمت وصارت مرتفعة لحوالي أربعة أمتار فسأل صاحب المشتل هل هو من زرعها فقال «لا. طالعة شيطاني» فسأله هل يعرف اسمها فقال كف مريم، وتذكر أنه هو من غرسها وهو صغير. هكذا كانت حياته اثمرت رغم ما مرّ عليها من رياح وغبار.
روائي مصري
مبارك حصولك المستحق على جائزة النيل للرواية.
شدني عنوان الكتاب اذ سمعت عنه قبل فترة ورغبت بشراؤه حال ذهابي لبلد عربي فقط لجمال عنوانه، ولسوء حظي لم اكن اعرف الكاتب . شكرا لك لتقديمك للكتاب وتعريفنا بعلم من اعلام الفكر
شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد. لفتني هذا القدر من التجربة والنضال الفكري والسياسي الذي تمتع به محمد سلماوي مع أني أول مرّة أسمع عنه. بكل أسف نحن نعاني إنقطاع ثقافي بين المجتمعاعات العربية بسبب السياسة وقباحة الأنظمة، رغم المشترك الثقافي بيننا من أعلى المستويات في العالم. لفتني أيضًا هذا الفحص الجبني، ١٤،٦٪ يعود للأجداد القدماء عرقيًا بينما ٨٥٪ متنوع وأعتقد شخصيًا أن معظم المجتمعات العربية هي كذلك. مما يعني أننا متنوعين لدرجة أن العنصرية أو العرقية لامجال لها في مجتمعاتنا. نستطيع بذلك أن نكون مجتمعات معاصرة وقادرة على أن تعيش حرة كريمة. لولا …. هذه الأنظمة. وبصراحة لا أرى في حكمة والد محمد سلماوي مثالًا يحتذى به، بل على العكس هذا المرض العضال يجب أن نعالجة حتى لا أقول كلامًا أقسى من ذلك. ربما أتذكر مقولة للمرحوم محمد حسنيين هيكل في كتابه عن أوسلو، ويل لأمة تعرف كيف تتأقلم ولا تعرف كيف تتعلم.