الأصدقاء السوريون لا يدعونها «دمشق» تسأله في الهاتف أين أنت، والجواب واحد: في الشام. لكن وجهة أهلك العراقيين دائما هي مقام السيدة زينب، فإن قصدوا مكانا غيره في سوريا سموه باسمه، اللاذقية أو طرطوس وغيرها، أما العاصمة فنحن، أي أنا وأصدقائي ومعارفي ومَنْ لف لفي، صرنا ندعوها مثل أهلها؛ الشام…
حقيبة الجندي
المهمة الصعبة والمعقدة والشاقة عند التهيئة إلى السفر هي الحقيبة الخاصة بالكتب، وأنا أدعوها (حقيبة الجندي) في نوع من التحية إلى الناقد هربرت ريد، فهو صاحب امتياز هذا العنوان لكتابه الأول في مسيرته الفكرية والأدبية. لكنك تحل اليومَ ضيفا عند الشاعر سامي أحمد، ودار التكوين التي يديرها، عبارة عن غابة فيها أنواع المؤلفات الأدبية والفكرية والسياسية، وكل ما فيها يفرشه صديقك بين يديك، فما حاجتك إلى حقيبة تثقل عليك؟ الجديد في الأمر أن المتاع خفّ لهذا السبب، وبدل العشرين كتابا صاروا عشرة، فإلى أي جهة يميل القلب، وعن أي ناحية يصد؟
في جولة استغرقت حوالي الساعة بين المكتبات السبع في البيت، صار الخيار على عدد من المؤلفات، واكتشفتَ أن الرزمة ثقيلة، وعليك ان تختصر. الضحية الأولى هي رسائل الجاحظ، ثم كتاب لمحمد مندور، الأولُ تشبعتْ نفسُك من بحره، والثاني، رغم صفاء لغته، فهي تشبه الموسيقى الناعمة تفتتح بها يومك بالقراءة، لكن البطء في إيقاع المقال لديه، وهذا أمر شائع لدى عباقرة المصريين الأوائل، قلل هذا الإيقاع الهادئ من رغبتك في إعادة قراءة كتابه. الصريع الثالث كتاب لرشيد الخيون، صحيح أن الرجلَ ساحرٌ في أدبه، وقلتُ له مرة في اتصال هاتفي، إنك تمسك بالتراب فيصيرُ بين يديك ذهبا، لكن الخيون يهوى البحث العلمي كثيرا، وأنت تحب الأدب أكثر، ثم إنك قرأت كتابه هذا مرتين، ولا داعي إذن إلى الثالثة. أقصيتَ بعد ذلك تحفة جورج أورويل «لماذا أكتب؟» لأنك تطمح بالجديد منه، وأبعدتَ كذلك في الدقيقة الأخيرة كتابين شعريين لفؤاد رفقة، غادرا الحقيبة خفيفَين، فماذا تبقى إذن؟
بيت بندر
هو الصديق الشاعر بندر عبد الحميد، وقد ودعناه إلى الأبد قبل ثلاث سنين. وكتبتَ عنه رثاء في مقال عنوانه «طائر اسمه بندر» نشرته صحيفة «المدى» في تلك الأيام:
طائرٌ قطع الصحراء
وجاءنا،
تغسل وجهه شوارعُ المدينة
وتسكنه بيتا
اقتنى الصديق سامي أحمد صاحب دار التكوين، بيتَ الشاعر بندر عبد الحميد من الوارثين، وفاءً ومحبة وإخلاصا، وعمل جهده في أرض البيت والجدران والسقف، ولم يُبقِ شيئا على حاله، سوى الذكريات والقصائد والأغاني، بالإضافة إلى طاولة كان يجلس عندها الشاعر يناجي بنت الحان. مثواي في الشام هو بيت بندر/ حي الصالحية/ جادة بندق. في غرفة النوم تشاركني أحلامي صورةُ الشاعر، تهدهدني، كأن فيها نفسَ أم رؤوم، فلم أشعر بأني في غير بيتي. لا تقل الصداقة عن الحب، وفي الاثنين تحرّزٌ سحري ضد الشعور بالعزلة والغربة والضيق، والإحباط كذلك، وهو المهم في متاع التعاسة التي يجب رميها في أقرب محطة خاوية، كما أن هناك أكثر من طريقة للتعبير عن الحب بيننا، واختار سامي أحمد أصعب طريقة؛ التشبث بروائح الماضي وإبقاءها تتجدد كل يوم، وهذا يعني عراكا وصراعا وقتالا دائما مع فكرتين لم يُكتب لأحد النجاح في التغلب عليهما، وهما النسيان والموت.
لن يغيب عن ذاكرتنا الشاعر الراحل، ولن يغيّبه الموت ببقاء بيته شاخصا في ضمائرنا وفي الواقع. لست وحيدا إذن في الشام، ولست غريبا، ولا أسكن غرفة غريبة في مبنى لا يشبهني. إنني أسكن في عش الطائر بندر، وقد صار بيتي. شكرا لك سامي تكوين يا صديقي، ويا حبيب بندر.
أذان الغروب في باب توما
الحيطان، الواجهات، دهان الأعمدة واليافطات، المارة في الشارع، أصواتهم، أيديهم وأذرعهم وأنوفهم والعيون، إلخ، حتى نباح كلب السيدة التي مرت بالقرب مني قبل قليل، كل شيء في حي (باب توما) مسيحي ويعود إلى عهود قديمة، فلا مجال إلى المغالبة أو المكابرة والنُكران. لا شيء يمت بصلة إلى ملتنا؛ أي دين محمد والصحابة والسلف الصالح، وكأن شميمَ الهواء هنا عاد بي في هذه الساعة إلى ما قبل زمن الرسالة والدعوة والهجرة من مكة إلى المدينة، وإلى عهود سبقت حروب الردة والفتوحات وبني أمية والعباس وكربلاء، إلخ. السلاجقة والبويهيون والصفويون وآل عثمان وآل فيصل ونوري السعيد، إلخ. الجعفري والمالكي والكاظمي ومحمد شياع السوداني.. لأن كل شيء هنا مسيحي صافٍ، وتكاد لا تقربَ، لأنك مسلمٌ، رموزه والكتابة على الجدران وعلى الطاولات والكراسي، وكذلك المصابيح وعناوين الدكاكين وأسماء الرجال والنساء، وروائح الهواء في الشارع والحانة والحانوت والمقهى، إلخ. عالم كامل متكامل، حتى الصمت والجلبة وزمامير السيارات، بل إن قطع الخيار والطماطة والخضار تتكلم بلغة نصرانية ناصعة في صحن السلطة على طاولتك، وكذلك الشنكليش (اللبن البائت) والبصل والزيت والخبز، والتعاويذ يلهج بها النبيذ الأحمر والأسود والأبيض، يتعاطاه الناس هنا بلسما لشفاء الجراح، كل شيء هنا مسيحي ويدل على غير ملتنا، كذلك دُكنة أشجار الحي المقدسة ـ جميع الأشجار في الكون مقدسة، حتى الشجرة التي تحملت عذاب ابن الله – والغروب نصراني هو الآخر والمساء والقمر، والموتى، فقد بقي لنا منهم شميم ثيابهم وأصوات تعرقهم على حجارة الكنيسة والرصيف والمطعم ومحلات بيع البن، إلخ.
ثم يأتيكَ، والوقت أول المساء، أذان الغروب في حي باب توما، عائدا بك إلى عهود السوداني والكاظمي والمالكي وآل صفوان وسلجوق وبويه، إلخ. لقد بلغني صوتُ الأذان وفيه طعم سنين زمان آل الأسد وال عثمان وعباس وآل أمية والخلفاء والهجرة من مكة، إلخ.
الجوع كافر
النوم المضطرب بسبب الجوع أدى بالصبي إلى أن يفكر بطريقة جديدة للتسول. راقب منذ الصباح المقهى القريب من سوق الحميدية، واكتشف أن ما لا يقل عن خمسة متسولين رجال، وخمس نساء فقيرات يدخلن المقهى كل ربع ساعة، من بينهم أبوه بالطبع وأخوه وأمه وأخته، دون أن يحصل أي منهم على ليرة واحدة، كأنهم أطياف غير مرئية تدخل المقهى وتغادره، ولا ينتبه إلى وجودها أحد.
كان المقهى يهجع في ظلال خانقة، رغم أن الوقت ضحى. تقدم الصبي من المائدة الأولى، وكان يتوزع حولها ستة لاعبين غارقين في أوراق القمار. رسم الصبي على وجهه أمارات البؤس كلها، وأشر بسبابته إلى الأعلى، ولم يقل شيئا. لبث واقفا زمن دقيقة ونصف الدقيقة، ولم ينتبه لوجوده أحد من اللاعبين. ظل إصبع سبابة الصبي الشقي يدور حول بقية الموائد، ويؤشر إلى سماء المقهى، في إشارة إلى طلب المساعدة في سبيل مرضاة الله عن الحاضرين، لكن ردة فعل الجميع كانت واحدة، وهي التجاهل التام لوجوده، كأنه أقل من ذبابة تطن في المكان. هنا قرر الصبي أن يباشر بالخطة الجديدة. الجوع كافرٌ، وليس هناك أحدٌ من هؤلاء مرّ به واكتوى بناره.. لكن ما فكر به الصبي يُعد من أفعال المخيلة التي لا تلائم سنه، ربما زادت الفاقة الشديدة التي تمر بها عائلته من عمره. قبل أن ينسحب من المائدة الأخيرة، وكانت تضم شيخين يلعبان الدومينو، استبدل الصبي إصبع السبابة بالوسطى، في معنى مختلف هذه المرة كثيرا عن تضرع السبابة إلى السماء..
كاتب عراقي