رواية «الشيطان فوق التلال» هي الثانية في ثلاثية تشيزَرِه بافيزي «الصيف الجميل». لا ترابط في الأحداث أو الشخصيات بين الروايات الثلاث، فكل واحدة منها مستقلة عن الأخرى. لكنها تشترك في كون الصيف هو المجال الزماني والمكاني لكل منها، كما في كون الشخصيات فيها هم جميعا في عمر ما قبل النضوج، أو في عمر بدايات تحقّقه.
هو الصيف إذن، ذاك الذي في روايات وأعمال سينمائية كثيرة، يمثّل حدّا فاصلا في مسيرة شخصياتها.
نتذكّر دائما فيلم The Go Between الذي اقتبسه جوزيف لوزي في 1971 عن رواية ك. ب. هارتلي، التي تسهب في وصف مشاعر صبي، مقبل على المراهقة، فيما هو يُدفع للقيام بدور حامل الرسائل بين عاشقَيْن. أما هنا، في رواية «الشيطان فوق التلال»، فأخذ الصيف الشبان الثلاثة، من حيث يقيمون في مدينة تورينو إلى منطقة ريفية هي «تل الكريبّو». هناك، بضيافة أهل واحد منهم واسمه أوريسته، قضى الشبان الثلاثة أياما متنزهين في الطبيعة، ومنعّمين بما تتيحه الحياة الريفية من حسن ضيافة وهدوء بال. لم يحدث شيء في تلك الإقامة. لم يصطدم أوريسته مع أهله، ولم تراود الشبان الثلاثة أفكار ورغبات تنبو عن طبيعة ذلك العيش الهادئ. كأن «الصيف الجميل» ذاك أسقط احتمالات الخطر التي كادت الرواية أن تضعنا على شفير احتمالات حدوثه، وقت ما كان هؤلاء مقيمين في المدينة (تورينو). أما الفتاة الوحيدة التي ظهرت لهم هناك، وهم في الريف، فتلك التي بدا أنها حبيبة أوريسته، وربما زوجته المستقبلية، لذلك لا يعدو ظهورها أن يكون تكملة للحياة البريئة الوادعة.
هو صيف هادئ أمعن الروائي بافيزِه في وصف يومياته، مطنبا في التغنّي بالأماكن الطبيعية التي تنقّل بينها الشبان، ثم في سرد مجريات حياتهم اليومية، التي لا تعِد بتبدّل سريع. هو صيف عادي يعيشه شبان عاقلون يلهون على مسافة كبيرة من أي احتمال خطِر قد يكون معرضا له كل مَن هم في مثل أعمارهم، سواء أتى هذا الخطر من الخارج أو أتى من انفعالاتهم وهواجسهم. صحيح أنهم كانوا، بسبب العمر الذي هم فيه، قريبين مما سيكون مستقبلهم، لكنهم في الوقت نفسه متناسون لذاك المستقبل ولاهون عنه.
هو صيف عادي يعيشه شبان عاقلون يلهون على مسافة كبيرة من أي احتمال خطِر قد يكون معرضا له كل مَن هم في مثل أعمارهم، سواء أتى هذا الخطر من الخارج أو أتى من انفعالاتهم وهواجسهم.
لكن ذلك سيتغير عند انتقالهم، هم الثلاثة، إلى منزل قريب للشاب «بولي» الذي كانوا قد التقوه وهم في تورينو. كان بولي هذا من أسرة واسعة الثراء، وهذا ما جعل رحلاتهم في الطبيعة أشبه بتنقّل في حديقة ملحقة بمنزله، الريفي أيضا. لكن لا أهل هنا في هذه الجنة المعزولة، فقط صديقهم بولي وتلك المرأة التي سريعا ما علموا، متفاجئين، أنها زوجته. وبمجرد أن يتبين للثلاثة أن علاقة بولي وزوجته غير مستقرة، بل ومؤقتة، ذهبت براءة الإقامة باتجاه الظنّ والشك. بالتدريج اكتشف الراوي، وهو أحد الثلاثة، أن علاقة تربط بين صديقه أوريسته وتلك المرأة. أما زوجها فكان غير مكترث ولا منتبه لما يحدث حوله، لانشغاله بالشراب والتفكير بمعنى الحياة والجدوى من عيشها.
هو توتَر صامت ذاك الذي تحولت إليه الرواية في ثلثها الأخير. لم يقم شجار بين أفرادها ولم يغضب أحد من أحد، لكن الرواية بدأت تُظهر فساد ذلك العيش. حين انضم آخرون عديدون من شبان وشابات ليقيموا في ذلك المنزل بدا كما لو أن تلك الفوضى، التي اشترك فيها الجميع، تجاوزت حدّ التلهّي والطيش العادي. لكن مع ذلك ظلت نبرة الرواية هادئة. بدا بافيزه، كاتب الرواية، في مجرى التسلسل العادي ذاك، غير المشوّق، كأنه يدفع قرّاءَه إلى البحث عن معنى يكمن وراء ذلك السرد البطيء، حيث لا شيء يفاجئ فعلا ولا شيء يتغيّر. لكن بلوغ ذلك المعنى الخبيء ظلّ صعبا، بل ربما اندفع القارئ، وهو يقلب الصفحات، إلى تصوّر أن هذا السرد العصي على التقدم إلى الأمام يمكنه أن يستمرّ متطاولا من دون نهاية، من دون أن يصل إلى ما يسعى إلى الإفصاح عنه، لكن الروائي لم يلبث أن وجد ضالته في مرض السلّ الذي أصاب به صاحب البيت، بولي، الذي انبثق الدم فجأة من رئتيه ليملأ فراشه وسريره، وهو ما أمدّ الرواية بجرعة دعم قوية، على الرغم من أن ذلك جرى في الصفحات الأخيرة منها.
لم يسبق لي أن شاهدت اقتباس المخرج الإيطالي فيتوريو كوتافافي للرواية (عام 1985)، جاعلا فيلمه تحت العنوان ذاته: «الشيطان فوق التلال». ربما لو أتيحت لي تلك المشاهدة لأمكن لي مشاركة قارئ آخر في استبطان ما سعت الرواية إلى إبلاغه. لكن هناك ما يُقنع القارئ المتسائل عن أهمية الرواية وأثرها في الأعمال الروائية الإيطالية، التي ظهرت بعدها، وهو يتمثّل بشهادة إيتالو كالفينو، الذي كان قد أعلن أن «بافيزه هو الكاتب الإيطالي الأهم، والأكثر عمقا، والأشد تعقيدا في زماننا». ولم تتوقف تلك الشهادة عند كالفينو وزمنه، فها هو أمبرتو إيكو يقول، بعد عقود تلت، أن بافيزه هو أحد الكتاب الأساسيين في إيطاليا.
رواية تشيَرِه بافيزِه «الشيطان فوق التلال» صدرت عن دار المتوسط بترجمة كاصد محمد في 237 صفحة- 2019.
٭ روائي لبناني