يوميات عمّان

تزرع فينا المدينةُ الجميلةُ الافتتانَ والحيوية والإثارة، لأننا نسكن في أحيائها، كما تسكن هي فينا وتمتلكنا. تشبه مدينة عمان الحديثة امرأة فيها كل شيء جميل، لكنها ليست فاتنة أو مليحة أو حسناء. إنها المرأة الروبوت، يمكن للإنسان تفصيلها مثلما يشاء؛ الطول والرشاقة ولون العينين وشكل الأنف والفم… وهي تجيد كذلك الرقص والغناء والطبخ.. وحتى قول الشعر وصياغة الحكايات. كل ما يخطر في بالك عن النساء مطبوع في برامج المرأة الآلية. مع هذا، للأسف لا أحد يخطب ودها ويريد قربها غير شبيهها؛ الرجل الآلي.
لأستاذ الجمال في السوربون إتيان سوريو هذا الرأي: «هناك تواصل في الارتقاء المتتابع بين الفن والطبيعة، ثم بين الفن والحيوان، وأخيرا بين الفن والإنسان»، أي أن الطبيعة فنانة، وكذلك الحيوان، وأخيرا يأتي دور الإنسان في طبيعة تعامله مع الفن، فإذا كان روبوتا كانت نسبة فهمه وتقديره للفنون معدومة.
حوالي أكثر من ثلاثة أرباع عمّان يطغي عليه الحاضر بشدة، وعمارة المدينة الحديثة لا تترك مجالا لنا كي نسير في الشارع ونصغي إلى الصمت في داخلنا، وإلى الهدوء الحق في المكان، من أجل أن تبلغ أرواحنا السكينة التي يتطلبها الانغمار في الشعور في السعادة. بدلا من ذلك، ينمو خوف غير مفهوم لدى المرء، عندما يقف في انتظار الباص، والعجلات المسرعة تخطفُ في كل اتجاه، تُطلق محركاتُها ما يشبه نحيباً غامضاً يخترق الشوارع الأنيقة والمملة، يبدو المرء عندها كطيف أو بخار خيالي يذكرنا ببطل رواية «القصر» لِكافكا، لا يفعل شيئا غير أن ينتظر عند إحدى الجادات التي توصل إلى القصر، يتطلع بعينين جامدتَين إلى لا شيء، وعرق بارد يسيل على وجهه وجسده طوال الوقت. من يستطيع أن ينفض عن بطل كافكا الطبقتين السميكتين من التعب والأرق، من يساعده على الهروب والخلاص من هذا الكابوس الأبدي؟
عمّان مثالٌ لهندسة ما بعد الحداثة، نشأت وقامت لا على النموذج الشرقي (القديم) أو الغربي (أي أوروبا)، بل إن مصمميها يسيرون على خطى المدن الأمريكية، حيث يمكنك أن تتجول بالسيارة لساعات، دون أن تجد ما يجب أن يكون مركز المدينة. حالة من الذهول تبين على ساكنيها، الفقراء من شدة العوز، والأغنياء من عالم الأعمال الكبير وسطوة المال العليا. المدن العريقة مثل بغداد، دمشق، إسطنبول، مدريد.. تشعر في زيارتك الأولى إليها كما لو أنك عشتَ فيها طفولتك، والناس فيها عاديون كالذين تراهم وتلتقي بهم كل يوم. يقول الشاعر بودلير: «طفولتنا هي الوطن»، وبما أني تربيتُ في مدينة العِمارة، فلا أشعر بالغربة في البلدة التي تمتلك سوقا قديما وجامعا قديما وكنيسة ومقهى، حيث الشمس بتوقدها الغريب، تمنح الأبواب والحجارة ألوان عسل الحياة البهيجة، وتنسكبُ خمرةُ النهار الآفل على أرض الشارع، فتُسغبُ على الساكنين شعورا بالسعادة، في انتظار قدوم الليل الأليف.
تصف فرجينيا وولف أحد شخوص قصصها بهذه الصورة: «جاء إلى المال مثلما يجيء العصفور». في مدينة عمّان القديمة (وِسْط البلد) التقيتُ بناس يشبهون بطل الكاتبة الإنكليزية، يعيشون في جحيم مخصص للأحياء البائسة، وإن القلب يحتاج أن تصله من مائدة الفقيرِ ووجهه الأبدي الإشارةُ والموعظة، حتى الشر الذي يقترفه الفقراء بحقدهم الموروث على العالم، هو جزء من الخير الذي يسير وفق قوانينه نظام الكون، وربما كان هدفه المأمول.

عمان.. تل أبيب.. أربيل

أربيل سكنتها طويلا، عمّان أزورها أول مرة، وسمعتُ عن «تل أبيب» في نشرات الأخبار فحسب، لكني أستطيع أن أكوّن صورة قريبة لما يدور فيها، فهي الركن الثالث الذي يقوم عليه عالمنا اليوم. هل أقول إنها ثالثة الأثافي، أم أولها؟
لا فرق. المهم أنها تكون ثلاثة، كي يستقر القِدر الذي يعد فيه الساسةُ الطبخة التي علينا أن نتجرعها جميعا، وهذا لا علاقة له بفلسطين والتطبيع وغير ذلك. إنه كلام يعود إلى ما يمكن أن ندعوه (العالم القديم). العالم الجديد مختلفٌ كثيرا، مثلما تغير زماننا عن القرن التاسع عشر، سوف يعيش أحفادنا في أوطان غير التي تضمنا… يشبه الكلام في السياسة عندنا الركض مع طفر الحواجز، وربما جابهك حاجز بارتفاع لا تستطيع القفز فوقه، وتكون مجبورا عندها على قطع مشاركتك في السباق، والعودة إلى جادة الأدب، حيث اعتدتَ أن تمشي الهوينى، ومع ذلك تصل.
تخلو مدينة عمّان من شارع يحتشد فيه الناس، في رواحهم ومجيئهم في ساعة التبطل، القديمة لأنها فقيرة وناسها مقصيون ومبعدون وغارقون في الإحساس بالعزلة والفقر، والحديثة بسبب تصميمها الذي راحت فيه أبصار القائمين إلى السيارات، أكثر مما نحو البشر. حتى السينما، تأتيها في عجلتك الخاصة، كي تشاهد فيلمك المفضل من وراء هيكل السيارة وزجاجها السميك، في هدوء ثقيل وتحت ضوء القمر البارد القاتل. في هذه الحالة تصبح الشاشة امتدادا للعجلة التي تقف في مقام الحاجز أو الدرع، وظيفته أن يمتص سحر الفن، ويعكسه إلى الخارج. يتطلب هذا الامتدادُ نسَبا للرؤية، وتوازناتٍ جديدةً في حجم الشاشة تفتقر إليها سينما (العجلات)، كأنها صُممت للتباهي بالثراء بشكل غير مفهوم، أكثر من الخوض في محيط الفن. وينتهي الفيلم ولا تشعر بأنك صرتَ أخف وزنا وأكثر حرية، أو أنك تحصنتَ ضد اليأس، مثلما يحصل لنا في سينمات (البشر).
كان محمود درويش يبرر دائما عدم استقلاله العجلة في التنقل بهذه العبارة المخاتلة:

«أنا لا أسير على أربع»

وفق هندسة المدن الحديثة، نحن محرومون من متعة السير في الشارع، والجلوس في المقهى الطائر على الرصيف، ومن نعومة العيش التي يصنعها التكافل بين الناس، والإحساس بالتضامن والصداقة، عندما يمنع المهندسون أو يُزيدون من صعوبة اجتماعنا مع بعضنا بعضاً، أو أنهم يضعونه على التخوم. نحن نعيش وسط عالم ندركه من خلال حواسنا الخمسِ، وأصعبها تحقيقا حرارة الملمس الإنساني، التي تحتاج إلى خطوة واسعة نقوم بها تِجاه الآخرين. في المدينة الحديثة صار هذا التقدم مستحيلا بسبب الفراغ والعزلة اللذيْن يغلفاننا، والصمت الذي يتراكم على العيون من جرائهما. كان هوميروس يتحدث عن الآلهة، وجاءنا الأنبياء بأخبار الملائكة، وعلى الكاتب في هذا الزمان التكلم باسم بني البشر، ونزوعهم الدنيوي إلى الحرية والسعادة، والعيش خِلْواً من الهم. إذا أراد الواحد منا أن يعيش حياته مرتين أو أكثر، فما عليه إلا أن يسير في الشوارع المزدحمة، يحتك بالآخرين ويتلامس معهم فتندفع قلوبهم صوب قلبه، يعينونه وينقلون عدوى سعادتهم وهنائهم إليه.

يوم غير عادي
هو اليوم الأخير من الإجازة، قضيتُ شطرا كبيرا من نهاره في مشاويرَ فاشلةٍ تقريبا، فالمكتبات ودور النشر تشبه في عمّان مريضا يحتضر، كأن المدينة تعيش في ناحية أخرى من العالم. تقرأ في واجهة المبنى إعلانات عن خصم في الأسعار يبلغ 80 أو 90 في المئة، ومع هذا فهي خالية من القراء، وفي الزوايا تُشم رائحة الحداد. ماذا يحصل في الدنيا؟ ولمن نقرأ إذن، ولماذا نكتب؟ والسؤال الأهم كيف يعيش أصحاب المكتبات وقد صار الكتاب مثل نفاية يجب التخلص منها لأن ضررها أكثر.
لا يمكنك أن تذهب إلى أي مكان في عمّان دون سيارة، وكان مشوار المساء يشبه ما جرى لك في النهار. فالحانة التي تقصدها أعلنت عن حجوزات، لأن اليوم يصادف عطلة نهاية الأسبوع. ثم رحتَ إلى مكان آخر، واكتشفتَ بعد دقائق أن كل ما فيه لا يلائمك، لتغادره عائدا إلى مُعْتَزَلِكَ، وكانت رحلة العودة في الباص هي التي ثبتت السعادة والأمل في قلبك.
لأن الساعة قاربت العاشرة، كانت الحافلة فارغة إلا مني ومن شاب راح يلاعب خصما افتراضيا كرةَ القدم في موبايله. ثم صعدت فتاتان ترتديان الحجاب، انشغلتا منذ أن جلستا بقراءة كتابين في التاريخ والأدب. توقف الباص بعد مسافة قصيرة لفتاة لها وجه ملائكي، ترتدي ثوبا بلون قشرة الرمان، وتضع نظارتين طبيتين تسْرح بعينيها العسليتين من خلالهما في المجهول، وتسكنه على الأغلب. جلست ساكنة في مكانها، وكنت أتملاها من بعيد مثل صفحة بيضاء في كتاب. يتباين الظلام مع النور في عالمنا اليوم، ونستطيع أن نقول في الأخير إن الدنيا بخير، فهناك من يقرأ التاريخ والأدب، وهنالك من يكون صفحة في كتاب عظيم لمؤلف سوف يولد حتما ذات يوم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية