ثمة أحداث في التاريخ تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في أثرها ودلالاتها، وما يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلا من هذه النوعية من الأيام، إذ أنه ليس يوما فاصلا في تاريخ فلسطين والعرب والأديان السماوية فحسب، بل – من غير مبالغة – هو يوم فاصل في تاريخ الإنسانية المعاصر، في أنماط صراعها مع (وحوش بشرية) شرقا وغربا، سرقت سردية الإنسان (الضعيف) في صراعه مع (القوي) متوهمة أن صوت الضعيف لا يصل، وإن وصل فإنه لا يكون مسموعا، ذلك أنه لا أحد يتعلم من التاريخ الذي هو ببساطة تاريخ عنف القوي إزاء الضعيف، رغم ادعاءات (التحضر) الزائفة، لكن للتاريخ أيضا دورته الصامتة، فيصرخ حين تصل الأمور من تتابع الأحداث المفصلية التي نعرفها إلى حافة الانفجار، وكأن الأغلبية المستضعفة شرقا وغربا، كانت تنتظر حدثا عظيما ليقلب ميزان سردية الأقلية المُهيمنة، وما حدث في غزة – التي كأن الأقدار اختارتها- هو أكبر دليل على حاجة الضعيف ليقول سرديته هو الآخر، من خلال قول سردية فلسطين المغايرة تماما لسردية الأقلية المُهيمنة على السياسة والاقتصاد والإعلام وحتى الدين، التي تنادت لنصرة الظالم على المظلوم، في مشهد سريالي مضحكٍ مبكٍ، فطوبى لغزة ثم طوبى ثم طوبى.
والآن عليك أن تتأمل كيف لحدث فارقٍ كهذا، جعل أناسا ربما لا يعرفون حتى اسم فلسطين، أو أي شيءعن قضيتها العادلة المُغيبة، وكأنها تكتشف فجأة أن هناك في فلسطين آخِر شعب مُحتل على وجه الأرض، لقد بدأ الناس من ذوي الضمائر الحية، الشعور بالخديعة والسردية الكاذبة لبلدانهم، التي تصور المعتدى عليه كمعتدٍ، في أكبر كذبة في التاريخ المعاصر إزاء قضية إنسانية بالدرجة الأولى، وما تضج به وسائل التواصل الاجتماعي، أكبر دليل على ذلك، حيث بدأ جيل الألفية في الغرب تحديدا وهذا هو المدهش حقا، لا يشعر فحسب بمغالطات السردية في المناهج المدرسية، ولغة الإعلام المتحيز بشكل سافر وغير موضوعي في طرح جذر (المسألة الفلسطينية) بل في تحوله إلى تفنيد السردية المغلوطة، جملة وتفصيلا، وما خروج الناس في مظاهرات حاشدة حول العالم، إلا رغبة في سماع وإسماع صوت الضحية، وستبدي لك الأيام ما كان خافيا.
لقد دار الزمان دورته في أطول لقطة في فيلم دموي طويل، وحده الفلسطيني كان يعلم ذلك، لأن دماءه الزكية التي يُشربها الأرض، كانت بدورها تَشربُ من «أرض البرتقال الحزين» ولا يمكن – وفقا لنواميس الطبيعة – أن يذهب كل هذا جُفاءً، وحين بدا لهم أن القضية الفلسطينية في طور النسيان، بمحاولة التضليل بأنها قضية هامشية، بزغ فجر فلسطين وكأن: «الزمان استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض».
كان يا ما كان، في قديم الزمان وسوالف العصر والأوان، كان هناك شرير لا أحد يتخيل شره أو يتصور جبروته، كان يتشكل مثل الأفعوان والتنانين على هيئة أشكال مخيفة، عاش دهرا وهو يمتص دماء الأرض ويكذب محوّلا – واهما بالطبع- إنسانها إلى مجرد ميت برقم سرعان ما يُنسى، إلى أن جاء طفل فلسطيني اسمه حنظله من قرية مُحاصَرة وهو يبتسم، فألقى حجراً على الشرير الضخم والهائل والمرعب، فأصاب عينه العوراء عن الحقيقة، فانفجر الشرير صارخاً وقد مادت به الأرض كأنها القيامة، وأخذ يُرغي ويُزبد مكشرا عن أنيابه التي بطول أنياب الفيل، وقد اصطبغت باللون الأحمر من كثرة ضحاياه، التي لا تعد ولا تحصى: الويل لك، لقد قتلتني في مقتل! ضحك حنظله ضحكة ساخرة رددت أصداءها رياح الجهات الأربع، وهو يتأمل الغول يتلوى ويتلوى ويتلوى: حدث ذلك في السابع من أكتوبر من التقويم الفلسطيني، وهذه الحكاية حكتها جدة لحفيدها قبيل النوم، بجوار شجرة زيتون مُعمرة، فدخلت في تاريخ الحكايات الشعبية من أوسع أبوابها.
«الحق الحق أقول لكم»: هذا هو الدرس الفلسطيني البليغ.
شاعر وصحافي من عُمان