احتفى الفلسطينيون قبل يومين بيوم الأسير الفلسطيني، الذي يحل في السابع عشر من شهر أبريل كل عام؛ وهو الذكرى التي يؤكد فيها شعب فلسطين وفاءه لأبنائه الذين ناضلوا خلال العقود الماضية، وما زالوا يناضلون، ضد الاحتلال الإسرائيلي، وسجنوا وضحوا بحرياتهم، وبحيواتهم أحيانا، في سبيل تحقيق مشروع التحرر الوطني الفلسطيني وإقامة دولتهم المستقلة.
أكتب مقالتي في هذه المناسبة، وقلبي مقبوض بالغصّات؛ لعل أقساها وآخرها كان رحيل «أسير الميلاد والأمل» وليد دقة بعد سبعة وثلاثين عاما قضاها خلف القضبان «كسيف الوطن المسلول»، حيث لم تقدر عليه، خلالها، مخالب السجن ولا سياط السجان، إلى أن تمكن منه المرض وأنهكه؛ فغاب وأبقى لنا تراتيل «زمنه الموازي»، بينما ما زالت إسرائيل تحتجز جثمانه وجثامين 27 أسرى آخرين.
وأتذكر، على ضفة الوجع الثانية، حلول الذكرى الثانية والعشرين لاعتقال القائد مروان البرغوثي، الذي اختطفته قوات الاحتلال من داخل رام الله في الخامس عشر من أبريل عام 2002 بعد أن سجّل مسيرة حافلة في النضال السياسي والميداني، وأعقبها بموقف القائد القدوة خلال محاكمته، ثم مضى أسير إصراره صامدا على درب العزة، فكان رمز التحدي والوحدة والاتحاد.
حلّت المناسبة هذا العام والشعب الفلسطيني يمر في ظروف مصيرية ومعقدة؛ زادتها تداعيات أحداث السابع من أكتوبر الفائت تعقيدا وضراوة وغموضا. لا أحد يعرف متى وكيف ستوقف إسرائيل حربها المدمرة على غزة، ولا مآلات هذه الحرب وتداعياتها التي قد تتدحرج بخطورة وتهبّ نيرانها لتشمل مناطق أبعد من غزة وكامل التراب الفلسطيني، كما يظهر من عدة مؤشرات، كما يشير حدسنا بما تضمره حكومتها الحالية، التي لا يخفي معظم وزرائها نهمهم ورغبتهم بإشعال المنطقة وإغراقها «بأضغاث أحلامهم» المبيتة، وقناعة بعضهم بأن إسرائيل تعيش، هذه الأيام، عصر تحقيق نبوءة أنبيائهم حول حتمية اندلاع حرب «ياجوج وماجوج». إنهم يحاولون بنيران حروبهم كتابة سفر التكوين من جديد، حيث ستصبح الأرض كما كانت «خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة»، ونهاية الحكاية، كما جاء في كتبهم.
إنها حرب مفتوحة ضد الفلسطينيين أينما وجدوا، وفي سجون الاحتلال طبعا؛ فالحركة الأسيرة الفلسطينية» شكّلت في مسيرتها الكفاحية أحد أوضح محاور الاشتباك الدائم مع الاحتلال الإسرائيلي؛ وعكست، منذ البدايات، فهم المقاوم الفلسطيني لدوره في مسيرة التحرر: فلا مساومة مع الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى، لا صمود من غير تأطير كوادر الأسرى في جسم موحد، وتخطّيهم لهوياتهم «الفردية» «والفصائلية»، دون أن يتنازلوا عن قناعاتهم الفكرية والسياسية المختلفة.
ردات الفعل الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر مجنونة؛ ولم تترك للأسرى فرصة حقيقية لترجمة تداعيات المشهد وتوظيف الراهن الفلسطيني كمؤثر مستجد يستدعيهم لإعادة النظر في واقعهم
قد يحسب البعض، مخطئين، بأن الكتابة عن أسرى الحرية الفلسطينيين، في «زمن الموت» الذي تعيشه فلسطين، فيه نزعة من طبع «النزق» والشت عن راهنية الدم؛ فالأسير، هكذا يظن هؤلاء، مهما ادلهمت عليه الليالي وتنمّر بردها، ينام بمأمن من قصف الطائرات، ويصحو على همهمة غيمة كانت وسادته في الخيال. أحقا؟
يبلغ عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال 9600 أسير، من ضمنهم 3660 أسيرا إداريا (المعتقلين بذرائع أمنية ودون تقديم لوائح اتهام بحقهم) وبينهم 22 امرأة و40 طفلا (من تقل أعمارهم عن 18 عاما). ويبلغ عدد الأسرى الأشبال/الأطفال 200 أسير، أما عدد الأسيرات 80 أسيرة وعدد الأسرى المرضى يناهز 800 أسير، بينهم العشرات يعانون من أمراض عضال أو مزمنة وخطيرة. أما عدد من صنفهم الاحتلال كمقاتلين غير شرعيين فبلغ 849؛ وتوفي في السجون الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر 16 أسيرا. لقد رفع الأسرى شأن المصلحة الفلسطينية العليا إلى مرتبة شبه «مقدسة»، ومضوا يشيدون، داخل السجون الاسرائيلية، كيانا حرا، التزم أفراده بممارسة حياتهم اليومية بانضباط متفق عليه، ووفق قيم نضالية وإنسانية وأخلاقية، أثبتت جدارة تضحياتهم الفردية، وأبهرت سجانيهم/ أعداءهم وفرضت عليهم التعامل مع الأسرى الفلسطينيين، باحترام نسبي، كجسم واحد وليس أفرادا ضعفاء ومكسورين ومشتتين، كما كان الاحتلال يخطط له ويرغب بتكريسه. لم تكن تلك المسيرة سهلة؛ فقد حاول السجان الإسرائيلي» تدجين» الأسرى الفلسطينيين بعد الاحتلال مباشرة، حين قررت محاكمه أن تعاملهم «كجناة وإرهابيين» وتفرض عليهم أحكامها وفق ذلك المنطق. كان هدف المحاكم العسكرية ليس فقط معاقبة المناضلين الفلسطينيين، بل ردعهم وتيئيسهم وكذلك ردع أجيال المناضلين القادمة؛ وكان دور السجون هو النيل من «أرواحهم» والتحكم فيها، وإبقاء كل واحد منهم مجرد «فريسة» لا أمل لها ولا حيلة إلا في «حضن السجان» ومننه.
أفشلت الحركة الأسيرة كل محاولات كسرها، وصدت جميع مكائد الاحتلال الإسرائيلي ومؤامراته ضدها؛ بيد أنه مع مرور السنين والتغييرات التي طرأت على الحالة السياسية والاجتماعية الفلسطينية، وتراجع مكانة القضية الفلسطينية في المنطقة، وتأثرها بقواعد لعبة الأمم ومصالحها المتغيرة، حصلت بعض التصدعات داخل الحركة الأسيرة، ما أدى إلى إضعاف مكانتها كحصن آمن ومنيع لجميع الأسرى داخل السجون، وتراجع دورها الوطني العام وشرعيتها في التأثير على المشهد الفلسطيني باعتبارها جبهة كفاحية موحدة وبوصلة ثابتة كانت ترشد من تاه، أفرادا أو قيادات أو فصائل، إلى المقدس الوطني الذي كان يختزله شعار: الوحدة ثم الوحدة، وليبق العدو أولا وأخيرا هو الاحتلال الاسرائيلي. من المؤسف أن حالة الضعف التي بدأت علاماتها تظهر على جدران زنازين الحركة الأسيرة وبوادر التشرذم لم تدارَ ولم تداو من قبل من كانوا أمناء على سلامتها ومناعتها؛ فرغم أن جميع القوى الوطنية والإسلامية شعرت بها، وقدّرت مخاطرها القاصمة، لم تواجهها بل قام بعضهم بتبنيها وبتزويدها بفتائل الاشتعال. ما زال الانشقاق بين حركتي فتح وحماس أقوى من دوافع ودواعي التغلب على الفرقة على مستوى الوطن، وداخل السجون أيضا، فساهمت تلك الانشقاقات بإقناع الاحتلال أن الحركة الأسيرة أصبحت «فريسة» سهله راح يطاردها بكل غرائزه الدموية ونهمه الذي لا يعرف شبعا.
لقد كان متوقعا أو طبيعيا، أن يتغير الوضع الداخلي الفلسطيني بعد السابع من أكتوبر، لكن ذلك لم يحصل، وبقيت أحوال «الفلسطينيتين»، فلسطين منظمة التحرير وفلسطين الإسلامية، على ما كانتا عليه، أو أنها صارت أسوأ؛ فغزة، بعد السابع من أكتوبر، تبدو أبعد عن رام الله وأحوال الحركة الأسيرة أخفاها الغبار… لننتظر ونتمنى؛ عسى الأيام تزوّدنا بالأحسن.
جاءت ردات الفعل الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر مجنونة؛ ولم تترك للأسرى فرصة حقيقية لترجمة تداعيات المشهد وتوظيف الراهن الفلسطيني كمؤثر مستجد يستدعيهم لإعادة النظر في واقعهم الذي كان ملتبسا قبل ذلك التاريخ. لقد انهالت الضربات على الأسرى بصورة غير مسبوقة ببشاعتها ووحشيتها وحولت حياتهم إلى جحيم طال جميع مرافق حياتهم، واستهدف مكانة قياداتهم والاعتداء الجسدي الخطير عليهم، وعزلهم المطلق عمّا يجري في الخارج، وتفكيك البنى القيادية الهرمية بينهم، حتى بات التواصل العادي بينهم شبه معدوم. لم تكن مخططات حكام إسرائيل الجدد قبل السابع من اكتوبر مختلفة عن مخططاتهم اليوم؛ لكنهم شعروا، بعد السابع من اكتوبر، بأن السيف قد وقع وبأن فرصتهم صارت ناجزة وممكنة. ولم يتعظ الأسرى الفلسطينيون قبل السابع من أكتوبر من أهوال الفُرقة ومن الاحترابات الداخلية ومن سياسات طأطأة الرأس، ولم يتعظوا بعده؛ فلو فعلوا، لو، لكانت أوضاعهم اليوم مختلفة، ولكان ثرى فلسطين يحتضن جثامين من سقطوا في الأسر، والمرضى لا ينتظرون مصير رفيقهم وليد ومن رحلوا قبله وكان، وكان .. أقول هذا بحسرة وبوجع وبملامة، لا استثني منها أحدا.
كاتب فلسطيني