لم تكن الأوضاع في العراق قبل التاسع من نيسان/إبريل 2003 وردية ، وليست أحوال البلاد والعباد سمن وعسل ، فالبلاد كانت تعاني من حصار جائر ، وشامل ، وغاشم ، تواصل لأكثر من عقد ، أريد به إضعاف مناعتها ، وشلها حتى تحين لحظة الانقضاض عليها ، ومحو دولتها ، وتقسيمها قسمة غير معلنة ، لجعلها حقل تجارب لشرق أوسط جديد ، عبر مخاض مبرمج لفوضى أسموها خلاقة، لم يكن نظام الحكم في العراق وقتها مثاليا، ولا ناعما، ولا تبعيا ولا مطبعا ولا مهادنا، كان شموليا ، ككل الشموليات السائدة ، أي لم يكن نظام حكم شاذ، بل كان في السبعينيات من القرن الماضي نظاما يقود دولة هي من طلائع الدول النامية في العالم الثالث ، هذا حسب مؤشرات منظمات أممية وحركات تحررية ويسارية ، كان قرار تأميم النفط وجعل استخراجه والاستثمار به وتصنيعه وتسويقه حكرا وطنيا قد أغاظ الشركات الاحتكارية الغربية، كانت الصناعات العراقية الثقيلة والخفيفة في ازدهار ، ومثلها الزراعة والإنتاج الحيواني، أقام خطوط تصدير النفط من الفاو حتى زاخو، وأقام ميناء البصرة العائم والنهر الثالث ، وكان للعراق أسطول للصيد البحري ، وأنجز نظام الحكم هذا مشروعا وطنيا لمحو الأمية بشهادة اليونسكو ، وباختصار كانت هناك دولة محترمة ، وتصنيف لجوازها ودينارها وجامعاتها وصحة سكانها عالي المقام ، بلاد لا تنقطع فيها الكهرباء ، بلاد نسبة الفقر فيها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة !
حروب مهندسة
الوقائع وكشف المستور من المعلومات الموثقة ثم الناتج المتسلسل من الأحداث المترابطة وتعاقبها ، والتفتيش عن المستفيد منها الذي هو ذاته المستثمر بها ابتداء ، وليست نظرية المؤامرة، ما يدفعنا للقول إن حرب الخليج الأولى كانت استجابة لتحدي وجودي للنظامين وقتها ، النظام الإيراني الجديد الذي أراد من الحرب تصفية الحساب مع الداخل بفزاعة التآمر الخارجي، والنظام العراقي الذي استشعر الخطر من تصدير ثورة الجار اللدود، حتى هنا كانت سنتا الحرب الأولى كافية لهدن ثم تفاهمات بعدم التدخل ، لكن الحال ليست بهذه السلاسة فهناك من يصب الزيت على النار ، وهذا مقرر وفق سياسة الاحتواء المزدوج الأمريكية للعراق وإيران وضربهما ببعض لتكون إسرائيل سيدة الموقف في عموم المنطقة من الخليج وحتى برقة ، لقد دمرت إسرائيل المفاعل النووي العراقي، أثناء الحرب التي دامت ثماني سنوات ، ثم تم تسريب معلومات خاطئة للعراق عبر الأردن عن إنكسارات إيرانية شديدة الاحتمال لو واصل العراق تقدمه في العمق الإيراني، وتم التظاهر بدعم رسمي عربي معزز بضمانات ووعود، والشهود هنا هنري كيسنجر، ومحمد حسنين هيكل ، ومارتن إنيك ، وصدام حسين !
حرب 1988
بعد موافقة آية الله الخميني عام 1988 على وقف إطلاق النار ، توقفت الحرب ، وخرجت منها إيران والعراق مثخنتين بالجراح ، لكن تداعياتها لم تنته، فالهندسة متواصلة لأن الخروج العراقي المسيطر، والمحتفى به عربيا ، بشاهد قيام مجلس التعاون العربي المكون من العراق والأردن ومصر واليمن الموحد ومنظمة التحرير ، يشكل تهديدا متجددا لإسرائيل والمصالح الأمريكية ،لذلك ذهبت مذهبا آخر وهو خنق العراق اقتصاديا ، ولم تكن مداواة الجراح العراقية ممكنة مع حرب جديدة ، فكانت الحرب اقتصادية هذه المرة، وبفعل فاعل مدفوع دفعا ، حتى أُوصل سعر برميل النفط الى 5 دولارات ، أي بالكاد يغطي تكلفة الإنتاج ، فالمشهد يقول جيش عراقي كبير مجرب ، وذو خبرة مع قيادة ذات أبعاد قومية معادية للصهيونية ، وثروة كبيرة ، تجميدها يعني تجميد التعافي السريع ، مع أثقال اقتصادية ومديونية ، وفعلا تعاظمت المشكلة ، وانفجر الخلاف المتراكم مع الكويت المتصلبة بشكل غير معتاد إزاء المطالب العراقية التي يراها النظام مشروعة، وهنا جاء دور الوسطاء والمستثمرين وتجار الحروب ، فكلام السفيرة الأمريكية في بغداد غلاسبي مع صدام عن الحياد الأمريكي ورسالة سابقة من وزارة الخارجية الأمريكية لصدام تؤكد عدم وجود التزامات أمريكية دفاعية أو أمنية خاصة تجاه الكويت، جعلت صدام يذهب إلى المحذور ، وهو الكمين المنتظر ، خاصة وأن الوضع العالمي شهد وقتها أجواء انتهاء الحرب الباردة وبداية للتفرد الأمريكي بالسياسة الدولية ، وشهودنا هنا وثائق ويكيليكس ، ومجلة فورين بوليسي ، وصحيفة دي فيلت الألمانية !
حرب الخليج الثانية
دخل صدام الكويت وخرج منها بحرب الخليج الثانية ، وفرضت على العراق شروطا قبلها العراق على مضض ، ثم قامت أمريكا بالتفنن في استثمار توافق مجلس الأمن معها في وضع كامل قراراته تحت البند السابع، ومنها العقوبات الشاملة التي اقترن رفعها بالتزام العراق بنزع كل ما يسمى بأسلحة الدمار الشامل ، وفعلا استجاب العراق وتوالت فرق التفتيش الأممية لهذا الغرض ، وفي عام 1996 وافق العراق على برنامج النفط مقابل الغذاء الذي يسمح للعراق بيع كميات محددة من نفطه مقابل استيراده للمواد الغذائية والدوائية، ونظم العراق وقتها أضخم عملية تموين للسكان حسب نظام البطاقة التموينية لتجاوز الآثار المدمرة للحصار الشامل المفروض على العراق ، واستمر الحال على هذا المنوال حتى افتعلت أمريكا أزمة جديدة متهمة فيها العراق بإخفاء أسلحة أخرى للدمار الشامل ، وحاولت إقناع مجلس الأمن بضرورة التوافق على دخول العراق عسكريا ونزع أسلحته لكن مجلس الأمن لم يقتنع بمبررات أمريكا وأباطيلها، فقررت بالتحالف مع بريطانيا وبعض دول حلف الناتو ومن لف لفها غزو العراق بحجة البحث عن الأسلحة المحرمة وأضافت أمريكا هدفا آخر لغزوها ، وهو بيان للكونغرس الأمريكي يدعو لتحرير العراق من نظام صدام حسين ومساعدة الشعب العراقي على إقامة نظام ديمقراطي ، وكان قد وقع عليه الرئيس بيل كلينتون ليصبح قانون تحرير العراق الصادر عام 1998!
وأصبحت حرب الخليج الثالثة واقعا ابتدأ بمرحلة الغزو الجوي يوم 19 آذار/مارس 2003 ثم الغزو البري ، الذي تواصل منذ يوم 20 آذار/مارس وحتى 9 نيسان/أيار حيث احتلال بغداد وسقوط النظام العراقي وتحول قواه الباقية إلى المقاومة السرية بما في ذلك صدام حسين !
المحصلة: احتلال العراق وتدنيس مقدراته ، حل جيشه وتفكيك مؤسساته ، تدمير البنى التحتية ، وإقامة مقتلة منظمة للكفاءات العليا ، وهجرة مليونية للملاحقين والمتضررين والناقمين ، وفبركة نظام مشوه بدستور غير مستق مع نفسه، وكأن مجرد إطلاق مزادات انتخابية تداور السلطة بين متنفذي الأمر الواقع المفروض بالدبابات الأمريكية، هو مبتغى التحول الديمقراطي المنشود ، متناسين أن لا ديمقراطية حقة دون استقلال وطني خالص من أي تبعية ، وإلا فأن النظام الملكي كان برلمانيا أيضا ؟
سياسة فرق تسد التي اعتمدها المحتل الأمريكي بالتعاشق مع الدور الإسرائيلي والتي تماهت مع الأجندة الانتقامية الإيرانية ، فعلت فعلها في تأجيج الفتنة الطائفية والإثنية في العراق مابعد الاحتلال !
تحول العراق الى مغارة علي بابا تتقاسمها ميليشيات الملل والنحل، وصار الفساد الشامل هو روح هذه الفترة المظلمة من تاريخ العراق . ولم تكن ظاهرة داعش ممكنة لولا احتلال العراق والعبث في توازناته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقيمية ، ومع الوقت وبعد مرور 21 عاما على قيامه بأكذوبة البحث عن اسلحة الدمار الشامل يجتهد عباد البلاد المخلصون للخلاص من التبعية بكل أشكالها العسكرية والاقتصادية والنقدية واسترداد الإرادة العراقية الحرة بمعزل عن الفتن ، مئات الألوف قتلوا وهجر وتهجر الملايين ودمرت مدن بأكملها ، بنكبة العراق منذ 2003 !
كاتب عراقي