الواحد قِرِف خلاص والله. يعني، لم تعد تذهب إلى مرعى أو مشرب، إلا وتجد من يتحدث عن نهاية العالم والكارثة الوشيكة وخطر الانقراض، أصبح الحديث في هذه المواضيع هوساً يتفنن فيه كل ديناصور على طريقته، ولو اكتفى الواحد منهم بإعلان مخاوفه لهانت، لكن الأمر تحول إلى مهرجان يفرض فيه الجميع عليك آراءهم، ويدعونك لتبني مواقفهم وأساليبهم في الحياة، وهذا هو الخانق والمقرف الذي يجعلني أحياناً أتمنى أن ينتهي العالم في وقت أسرع مما يزعمون.
دكرنسوروس المتحذلق يقول أن أمثالي من العدميين سيكونون سبب فناء العالم، وأننا لو كنا جميعاً قد استمعنا إلى نصائح جده الأكبر، بضرورة تقليل ما نأكله وتقنين ما نشربه، لما أصبحت الحالة شاحّة كما هي الآن. لا تحاول أن تذكره بأن أهله وأسلافه آكلون شرهون للحوم، وأن أمثالهم من العضاضين مسؤولون عن فناء فصائل بأكملها، وأن نهمهم إلى اللحوم كان يجعلهم يفرطون في استهلاك المياه تسهيلاً للهضم، لأنه سيصدعك بالحديث عن تجربته المدهشة في التحول من لاحم إلى نباتي، ومن عضاض إلى قاضم، وهي حكاية لم أبلعها أبداً، برغم أنه خضع لرقابة من لجنة متخصصة رافقته ثلاثة أيام، لم تمتد فيها أنيابه على جنس مخلوق، لدي ثقة أن قصته ستنتهي بكارثة، حين يأكل فجأة أمه ذات الوجه الكشر، أو أباه العجوز الخرف الذي لا يكف عن ندب حظه، مؤكداً أن تحول ابنه المفاجئ دليل على نهاية العالم الوشيكة، التي تبشر بقرب تحقق نبوءات جده، الذي عاث في الأرض فساداً، ثم تدروش في آخر أيامه، فأتعب الجميع في شتى أحواله.
كل هذا كوم ومعاناتي مع اللعين مطرطارس كوم آخر، أحياناً أشعر أنه أقل مني اكتراثاً بنهاية العالم المزعومة، بل إنه على العكس سعيد بها، لأنها أتاحت له فرصة عمره في لعب دور الواعظ، وجعلت لحياته التافهة معنى، يصحو من النوم مبكراً على غير عادته، يحشّ الذي فيه القسمة، لكنه لا يمعن في عبّ المياه ليكون خفيفاً في حركته، ثم يلف على النواحي والنجوع، فلا يترك ديناصوراً يلتقيه إلا وحدثه بنبرات باكية مقبضة عن ضرورة الاستعداد للنهاية، بالتوقف عن المشاحنات والمشاجرات التي يستسهلها تزجية للفراغ وهروباً من الملل، وضرورة استثمار الوقت في ما ينفع، وحين سأله السيراتوبسيانس المعروف بحدة مزاجه عن اقتراحات محددة لما ينفع، نصحه باستغلال قرونه في تسليك الأشجار المتشابكة في الغابة، ليوسع الطريق لإخوته من أكلة النباتات، فنطحه السيراتوبسيانس بقرنيه في مؤخرته، وحذره من الكلام معه ثانية لأي سبب ولو حتى بعد نهاية العالم. سمعت أنه بالأمس نصح السحلية العملاقة ميغالوساروس بأن تكف عن معاشرة ديناصورات من غير فصيلتها، لأن ذلك سيؤدي إلى اختلاط الأنساب، ففتحت له رجليها وقالت له متبجحة «ولماذا أحرم المشتاقين إلى هذا الجمال؟»، فسارع في الابتعاد وهي تشيعه باتهامات تخص فحولته، زاعمة أن ذلك كان سبب اختفاء زوجته المفاجئ، وأنها لم تسافر لأهلها كما زعم، بل هجرته وسافرت مع السوروبود ذي العنق والذيل الطويلين، مهاجرين نحو بحيرات عميقة بعيدة، بعد أن انخفض منسوب مياه بحيراتنا، لأسباب لا يكف الجميع عن الإفتاء فيها.
أحياناً أفكر أن نباتيتي هي سر عدم اكتراثي بما يجري، ربما لو كنت من العضاضين لاختلف تعاملي مع الأمر، فمنذ أن أصبحت فرائسهم نادرة، وهم لا يكفون عن الشكوى من الأوضاع الكارثية، والتبشير بما هو أسوأ للجميع، وليس لهم فقط، لا أنسى كيف وقف دينونيشوس أنتيروبوس في المؤتمر السنوي الأخير بكل وقاحة، وقال أنها حين تخرب ستخرب على الكل، ولن ينجو منها لاحم أو نباتي، ثم ضرب أقرب الحضور إليه بذيله وترك المكان. أحياناً أقول لنفسي أن ضخامة أحجامنا هي التي تحمينا من الافتراس، وإلا لما كان العضاضون قد عتقونا، كنت من قبل أتهم ابن عمتي مطوبسوروس بالبارانويا، حين يعتبر غدر العضاضين مسألة وقت، وأن الجوع حين يستحكم، سيدفعهم لإيجاد تخريجات عملية للفتك بنا، وأنك لا يمكن أن تضمن غدر العضاضين، فشهيتهم إلى اللحم والدم هي التي تحركهم، دون اعتبار لأي قيم أو مبادئ، لا أستطيع أن أنكر فزعي مما قاله دينونيشوس في المؤتمر، وفزعي أكثر مما أبداه العضاضون من تفهم لوقاحته، لم يقف واحد منهم ليحتج ولو حتى بكلمتين لتهدئة النفوس، وحين طالبهم عمي الذي يفترض أنهم يكنون له كل احترام، بالتأكيد على أن موقف دينونيشوس فردي وأنه لا يعبر إلا عن نفسه، غمغموا بكلام غير ممسوك، جعلني أفكر في جدية ما يقوله مطوبسوروس.
بالأمس صحوت مفزوعاً إثر كابوس رأيت فيه ثلاثة من أخلص أصدقاء عمري اللواحم، يقومون بنهش جسدي بنهم مبتهج، بالاشتراك مع ديناصور طائر من جنس الهادروساويروس، وحين حكيت الحلم لأمي، استخفت بالأمر، وذكرتني أن الهادروساويروس لديه منقار يكفي بالكاد لالتقاط الحبوب، وأنني لو كنت رأيت في المنام طائراً ناهشاً من فصيلة الأبيرابتورساوروس لكان لمخاوفي مصداقية، لكن أبي الحذر بطبعه قال ونحن ذاهبان إلى البحيرة إن أمي ضيقة الأفق وتأخذ الأمور بحرفيتها، وأن الأحلام ليست إلا رسائل تحذير من الغيب ينبغي أن تؤخذ بجدية، وأن علي أن أحترس دون تخوين، لأن ظهور علامات الحذر الزائد يجعل الطامع فيك يزداد طمعاً، ولذلك قررت إلغاء مشروع رحلة السفاري الطويلة التي كان يفترض أن أشارك فيها أصدقائي، في الحقيقة لم أفهم لماذا يلجأ ثلاثة من العضاضين إلى اصطحاب ماضغ في رحلة بحث عن فرائس، وما الذي سيمنع أن يتحول الماضغ إلى فريسة، إن فشلت رحلة البحث في العثور على ما يشبعهم، لم أفكر حتى الآن في سبب مقنع للاعتذار، لا يدفعهم للشك في أكثر، خاصة وقد كنت من أكثر المتحمسين للفكرة، لأني كنت راغباً في الابتعاد عن الجو الهستيري الذي يحيط بي، لكن هواة الوعظ والتنظير أرحم وأحن بكثير من هواة العض والفتك.
لا أريد أن أشارك في البكائيات التي انتشرت في كل مكان، تنعي ذلك الزمان الجميل الذي كنا نعيش فيه في سلام وأمان، لا يشكو أحد من نقص فرائسه، ولا يقلق أحد على شكل مستقبله، فأنا في الأصل أكره الحنين وتقرفني البكائيات، لكنني مع ذلك أصبحت أتسامح مع المتباكين على الماضي، فلم أكن أتصور أن تصل الأمور إلى حد يجعلني أشك في أصدقاء عمري، ما الذي يبقى للواحد إن فقد الثقة في أصدقاء عمره، أبي بات يكرر الحديث عن خيار الهجرة، لأن العيش مع اللواحم أصبح محفوفاً بالمخاطر. لكن لماذا لا يسافرون هم بعيداً عنا بحثاً عن فرائس تشبعهم؟ ولماذا نترك خلفنا كل هذه الأشجار الشهية التي منحتها لنا الطبيعة؟ يقول أبي أن أسئلتي بلهاء، لأن الإجابة هي ببساطة مؤخراتنا الضخمة التي لا شك أنها تشكل سبباً وجيهاً لبقاء اللاحمين إلى جوارنا، يقول أنه سمع طراطيش كلام عن تدريبات سرية تجري في الأحراش القريبة، يتعلم فيها اللاحمون تقنيات الصيد الجماعي، وأن التدريبات لم تعد تُجرى على الأشجار، بل أجريت على جسد بليسيوساروس أوشك على الموت، وأن أخطر تلك التدريبات كان يستهدف منطقة العنق لنهشها بشكل مكثف يسارع بإنهاء حياة أي ديناصور مهما كانت ضخامته وقدرته على الدفاع عن نفسه.
يقول أبي أنني أخذت البرود وراثة عن أمي، التي يحلو لها تكسير مقاديفه، كلما أمعن في الحديث عن مخاوفه، وردد ما يصل إلى مسامعه من رفاق المرعى، فترد أمي بأن ذلك من أعراض السن المتقدم التي تجعل الديناصور عديم الفائدة يفضل الكلام على العمل، وأنه كان من الأفضل لو أنفق هو ورفاقه الكسالى أوقاتهم في تخزين أكبر قدر ممكن من الحبوب، استعداداً لأي ظروف تعقب فيضاناً مفاجئاً أو حريقاً ربما يدبره اللاحمون لتطفيشنا من بلادنا، وأن عليّ أنا وأبناء جيلي لعب هذا الدور، لكي لا نخيب خيبة أهالينا، فيرد أبي أنه أصبح يتمنى أن يرتطم بها نيزك من الذي يحذرون منه، ليخلص من وجهها العكر وشعورها الدائم وغير المفهوم بالتفوق، فترد قائلة أن استمرار الحياة معه أشد فتكاً من النيازك والشهب الحارقة، وحين تصاعد صخبهما تركت لهما المكان، ومضيت نحو مرعى بعيد، مفكراً في طريقة ناجعة للتعامل مع أصدقائي الخطرين، ومتسائلاً هل أخطأت حين لم أستمع إلى نصائح الكبار من زمان بألا أصادق أحداً من خارج فصيلتي؟
ستكون الأيام القادمة صعبة جداً بدون أصدقاء.
بلال فضل