لم يكن الشاعر اللبناني بول شاول يبالغ كثيراً حين وصف (1914 ـ 1996)، هكذا: «إنه الأفغاني على توغل أكثر في مناطق العقل. ومحمد عبده على تماس مع إرث الأمم الأخرى. والكواكبي على التصاق بالحرية ونفور من الاستبداد. وفرح أنطون على تقارب مع الاشتراكية. وطه حسين على عناده العقلاني، الدكارتي بلا الكوجيتو، والتوحيدي (أبو حيان) بلا شطحات الصوفية والجاحظي على الخصب والبيان واللغة والنقد الاجتماعي. والاشتراكي بلا الأيديولوجية والعمومي بلا الشمولية، والعروبي بلا عنصرية، والتغييري بلا عنف واللغوي بلا اسنادات التجمد، واللبناني بلا التقوقع القبلي والمذهبي والمناطقي والبيروتي، بلا هوية محطومة.
والتوحيدي (أبو حيان) بلا شطحات الصوفية والجاحظي على الخصب والبيان واللغة والنقد الاجتماعي».
وأعمال العلايلي ـ اللغوي والأديب والموسوعي والفقيه المجدد والمشرّع الدستوري والشاعر ـ شواهد بليغة على مكانته في هذه الميادين، خاصة ثلاثية الحسين، وأعمال المعاجم، والآراء في الفتوى، وكذلك الشعر («رحلة إلى الخلد»، التي تقع في نحو ألف وخمسمئة بيت، وتحاكي المعراج؛ و»من أجل لبنان»، حول ويلات الحرب الأهلية)، رغم إصرار الشيخ على انه ليس بشاعر. ومع ذلك، في أوج التأثير الذي تركته عشرات المؤلفات والمقالات والسجالات، فإنّ العلايلي يظلّ «ذلك المجهول»، تماماً على شاكلة وصفه لأبي العلاء المعرّي في كتاب رائد.
جورجي زيدان
كان صحافياً لبنانياً، ولكنه صاحب الفضل في تأسيس دار «الهلال» من القاهرة، ثمّ إطلاق المجلة التي ستحمل الاسم ذاته، وستصبح واحدة من أهمّ منابر الأدب والفكر في العالم العربي. وكان مسيحياً، من جبل لبنان، ولكنه كتب روايات تاريخية أسهمت ـ رغم كثير من الطعون، المشروعة، حولها ـ في إعادة كتابة تاريخ الإسلام في عصوره المختلفة، وكبار رجالاته ونسائه. في الذكرى المئوية لرحيله (1861 ـ 1914) أقيمت ندوات في لبنان ومصر، استعادت تراثه الزاخر، وتأثيره في توعية الأجيال العربية المتعاقبة حول التاريخ العربي تحديداً، ودوره في ريادة أو تطوير وسائل الإتصال مع الجمهور عبر الإعلام؛ فضلاً، بالطبع، عن الإشكاليات العديدة التي اكتنفت طرائقه في استخدام المادة التاريخية وتوظيفها قصصياً.
الأهمّ، بالطبع، هو أنّ زيدان عاش في ذروة العقود العربية العاصفة، التي ستحمل اسم «النهضة»، والتي كانت حبلى بالمتغيرات والصراعات والتيارات، وخاصة ضمن استقطابين مركزيين: الأوّل تأثر بالفكر الغربي، وسعى إلى اقتباس كلّ ما هو «عصري»؛ والثاني شدد على التشبث بالتراث، ورفض كلّ ما هو «دخيل». لكن زيدان كان نهضوياً بالمعنى العصري والاصيل معاً، لأنه ببساطة اتخذ موقفاً مركباً عماده استلهام التراثين، الشرقي والغربي معاً. وتلك، أغلب الظنّ، كانت فضيلة كبرى أتاحت له أن يكون ابن عصره وابن تراثه أيضاً.
أوكتافيو باث
في سنة 1936 التقى شاعر مكسيكي شاب يتلمس طريقه في دروب القصيدة، أوكتافيو باث (1914 ـ 1998)؛ بشاعر تشيلي كبير ونجم ساطع في سماء الآداب المكتوب باللغة الإسبانية، بابلو نيرودا. كان الأخير قد تنبّه إلى موهبة الأوّل، وخصوصية معجمه الشعري، ومناخات قصائده التي تجمع الرمز بالصورة السوريالية ومادة الحياة اليومية؛ ولن يطول الزمن حتى يصبح باث شاعر بلده الأول، وأحد كبار شعراء العالم، فكان أوّل أديب مكسيكي يفوز بجائزة نوبل للآداب، سنة 1990: «تكريماً لمجمل كتاباته الشعرية والنثرية المتقدة بالعاطفة، والتي تتسم بآفاق ثقافية واسعة وتتميز بذكاء وطاقة إنسانية وقّادة»، كما قالت الأكاديمية السويدية.
عمله الدبلوماسي قاده إلى باريس، حيث أقام صداقة وثيقة مع أندريه بروتون ومجموعة السورياليين، وكتب مجموعة من التأملات النقدية المعمقة حول الشعر، وترجم إلى الإسبانية قصائد لشعراء كبار من أمثال و. ب. ييتس وبول إلوار؛ كما واظب على استكمال مجموعته الشعرية الأهمّ «حجر الشمس».
يقول في إحدى قصائده: «أنظري قدرة العالم/ أنظري سطوة التراب، أنظري الماء/ أنظري أشجار الدردار في دائرة السكون/ إلمسي من الطين والدر جلدي/ إسمعي يـنابيع ما تحت صوتي/ أنظري قدرة العالم/ إعرفي نفسك عندما تعرفينني».
الشيخ عبد الله العلايلي