تجاوزت تونس بحكمة وصبر الكثير من المطبات والأزمات، الحقيقية والمفتعلة، التي واجهتها مسيرتها الجديدة بعد الإطاحة بنظام بن علي في بداية ألفين وأحد عشر.
هناك مشاكل هي النتيجة المنطقية لولادة حالة ما بعد 14 كانون الثاني (يناير) 2011. لكن جزءا غير يسير من مشاكل أخرى ومطبات كان يمكن تفاديه، لأنه نتاج غلو ومغالاة غير ضرورية استنزفت جهد الوطن وحرفت النقاش فيه إلى عناوين ثانوية حتى لا أقول هامشية.
واحد من هذه العناوين محتدم منذ أسابيع ويخص عودة الإرهابيين الذين يقاتلون في بؤر التوتر في العالم إلى البلاد والعقاب الذي يجب أن ينالهم.
يمكن تصنيف هذا الموضوع بأنه نموذج للنقاش الثانوي البعيد عن محله وسياقه لأنه مبنيٌ على فرضيات واحتمالات بعيدة، بل لن تتحقق، منها:
ـ تصوير هؤلاء الإرهابيين وكأنهم في مهمة رسمية تبدأ في تاريخ معين وتنهي في تاريخ آخر. وهذا غلط.
ـ بناء النقاش على احتمال أن الحرب في سوريا انتهت بنهاية حلب (النقاش في تونس تكرس بعد أن اقتربت سيطرة نظام الأسد والروس على حلب). وهذا غلط.
ـ البناء على احتمال انتهاء «مهمة» هؤلاء الإرهابيين في سوريا، وتصويرهم وكأنهم الآن يحزمون حقائبهم عائدين إلى تونس دون غيرها. غلط كذلك.
ـ افتراض أن الحكومة التونسية ستستقبلهم بالطبول والمزامير وتفرش لهم سجاداً أحمر. وهذا غلط لأنه مبني على المواقف الجاهزة تجاه الحكومة وسوء النية فيها على ضوء تصريحات تفتقد إلى الحكمة بدرت من مسؤولين يتقدمهم الرئيس الباجي قايد السبسي.
ـ افتراض أن العائدين، إن عادوا وفقا للسيناريوهات المطروحة، سيباشرون جميعا حربا أخرى على تونس. هذا بدوره غير أكيد لأن الشائع في الإعلام الغربي والعربي عن المقاتلين في كتائب «داعش» أنهم يغادرون (إذا ما استطاعوا) ميادين القتال مهزومين محطّمين خائبين ومصدومين. رجل في هذه الحالة والظروف النفسية سيبحث لنفسه عن شفاء وتعويض، لا عن جبهة قتال أخرى.
ثم يأتي التصعيد في المطالب التي يسوقها الخائفون من عودة الإرهابيين، وكله مبني على خيال وافتراضات صعبة التحقق.
هناك دعوات المحاكمة والسجن، وهي مقبولة لأنها الأساس. ما يجد العقل صعوبة في استيعابه، تلك الدعوات المطالِبة بتجريد هؤلاء من جنسيتهم ومنعهم من العودة إلى تونس، في تناقض مع الدستور والقوانين والأعراف.
إذا ما جرَّدتَ إرهابيا من جنسيته فأنت تحرم نفسك من حق محاسبته ومحاكمته. وإذا كان هذا الرجل إرهابيا خطيرا بالشكل الذي يخيفك، فهل تعتقد أنه يهتم إن سحبتَ منه الجنسية أم لم تسحب؟
منع «العائدين» من العودة يعني دفعهم إلى جبهات قتال أخرى، وسيصبحون فيها أكثر شراسة وعنفا.
هذه الدعوات تصوّر العائدين وكأنهم قادمون في رحلات جوية مبرمجة ليجدوا أمهاتهم وذويهم في انتظارهم بالمطار كأنهم عائدون من سياحة أو رحلة عمل.
وتصوّرهم وكأنهم سيطلبون إذنا من أحد ليدخلوا إلى تونس. هل طلبوا إذنا من أحد عندما غادروا للقتال؟
هناك الكثير من السوريالية والمبالغة في الموضوع كله لأنه يتناسى الحدود الليبية السائبة والصحارى المهجورة في ليبيا ودول الساحل الأفريقي.
الدول الأوروبية وجدت صعوبة في المجاهرة برغبتها في منع مواطنيها العائدين وتجريدهم من جنسياتهم وهي التي تملك الترسانة القانونية والإدارية والقضائية للخوض في هذه المتاهة بأقل الأضرار، فكيف بتونس؟ بل تملك الدول الأوروبية المبرر النفسي للتصرف بحكم أن الكثير من هؤلاء المقاتلين مسلمون وعائلاتهم من أصول مهاجرة.
لا جدال حول أن من حق تونس أن تتساءل عمّا يليق فعله مع هؤلاء لدرء خطرهم المحتمل. فهؤلاء أشرار قادرون على ارتكاب أخطر الجرائم وأكثرها بشاعة، لكن الطريقة التي يجري فيها تناول الموضوع ليست حكيمة وبحاجة إلى هدوء وجدية أكثر.
يبدو النقاش الحالي استمراراً لجدل عقيم عاشته تونس سابقا في السياق ذاته كان عنوانه «جهاد النكاح» الذي روّج له إعلام «الممانعة» في سوريا ولبنان ضمن حملة تشويه مطالب الحرية والديمقراطية للشعب السوري.
آنذاك التقى طيف من النخبة التونسية مع إعلام «الممانعة» فتمّ توظيف موضوع «جهاد النكاح» إلى أبعد الحدود إلى أن اتضح أنه فبركة مقيتة فيها الكثير من المبالغة المهينة لنساء تونس.
وليس من الصدف أن الواقفين أمام عودة الإرهابيين اليوم هم ذاتهم الذين قاموا لشرف بنات تونس المجاهدات في «ميادين النكاح»، وفق المزاعم تلك.
اليوم يتكرر السيناريو تحت عنوان «العائدون» في قصة خيالية تصور لك هؤلاء كجيش رابض على أسوار تونس للانقضاض عليها.
موضوع العائدين من ساحات «الجهاد» قديم يعود إلى أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. الجديد الذي انفردت به تونس هو هذه المشاعر الممزوجة بالتشنج والشحناء، واستباحته في تصفية حسابات سياسية داخلية. والنتيجة أن أصبح ضرر النقاش أكثر من فائدته.
٭*كاتب صحافي جزائري
توفيق رباحي
يبدو يا أخ توفيق أن نبوئتك صدقت بأن من يتكلم كثيرا يخطئ كثيرا. فقد سبق لك قبل أربع أو خمس سنوات و من هذا المنبر أن وجهت نصيحة لعراب “إعلام الممانعة” بضرورة التقليل من الكلام، لكنه لم يستمع، و هاهي النتيجة، افتراء على نساء تونس الفاضلات. افتراء لم يجلب لصاحبه سوى لعنات كان في غنى عنها.
الأسلم والأحوط أن يتم إيداع هؤلاء العائدين من ساحات القتال في صفوف داعش السجن كإجراء إحتياطي ومرحلي، ثم يتم بعد ذلك تنظيم لقاءات دورية لهم داخل أسوار السجون مع دعاة ووعاظ معتدلين يقارعونهم بالحجة الدامغة والدليل المقنع ويكشفون لهم زيف إدعاءات الفكر المتطرف بروية وحكمة لعلهم يستفيقوا من غيهم، هذا المسلك جرب في المغرب وأعطى نتائج محمودة حيث تراجع بعض أقطاب السلفية الجهادية سابقا عن مواقف الغلو والتطرف واندمج بعضهم بعد ذلك بشكل ايجابي في المجتمع.
الغبي هو من ﻻ يتعلم من تجارب الاخرين و لنا فى الجزائر حكمة عندما فتحت الابواب للافغان الجزائريين للعودة الى الجزائر ما هى النتيجة اكثر من 200 الف قنيل و بشاعة لا مثيل لها ؟ اى ما يماثل عدد القتلى و الخراب الذى حل بسوريا …نجن ﻻ نريد حتى0.01 % مما حل لكم …لذالك نبنى كل الضغوط على الفرضيات نعم و لكن على حقائق و هى ان هؤﻻء القتلة هم خطر حقيقى على الامن و على مستقبل تونس …لذالك يجب حصرهم فى الزاوية و يجب ان يعلموا انه ان وضعوا قدم فى تونس ستكون القدم الثانية فى السجن و يجب ان يعلموا ام هنا رفض شعبى كلى لعودتهم اى ان مشروعهم انتهى فى تونس ….و للإجابة على عنوان المقال …الو ارهابى لماذا ستعود الى دولة الكفر و العلمانية ابقى فى دولة الإسلام و دافع عنها حتى الموت لترتاح انت و نرتاح نحن ….و تحيا تونس تحيا الجمهورية
والله أثلجت صدري يا حفيد القرطاجيين في تعليقك على المقال ,,تحيا تونس تحيا الجمهورية
شكرا أستاذ توفيق رباحي على المقال الموضوعي الرائع.. لن أنسى قضية جهاد النكاح والاساءة للتونسيات. ليت كل إعلام بني وطني يقرأون مقالك علهم يتعلمون مما أفسدته أيديهم وألسنتهم.. عند الله سنحاسب جميعا على ماكتبنا وماقلنا.
هذا المقال من أحسن ما كُتب في الموضوع. شكرا للكاتب المحترم.