آه يا ثلاثاء… لماذا أبكيتَ الأربعاء؟

حجم الخط
3

وجدتني يوم الثلاثاء الماضي أعيش لحظة حزن لا حد لها على وفاة القاصة والباحثة مليكة نجيب. كانت من طينة خاصة ونادرة. عرفتها قاصة موهوبة، وطالبة في الماستر. وبعد ذلك أشرفت على أطروحتها التي نالت بها الدكتوراه حول المرأة في الرحلة، ونالت عليها جائزة عربية.
عرفتها عن قرب وأسرتها. وحين نشرت خبر وفاتها على جدار الفيسبوك، تقاطرت رسائل التعزية من كل حدب وصوب، من المحيط إلى الخليج. وجاء الأربعاء، وكان عليّ حضور ملتقى نادي الرياض الأدبي حول «نقد القصة في السعودية» لرئاسة الجلسة الثالثة بعد الظهر. لم أكن في حذائي، كما يقال. كان الحزن يخيم في الباطن، وكان الظاهر يتظاهر بما هو خاف. وقررت المشي لمسافة بعد اللقاء. وما إن وصلت الغرفة حتى اتصل صالح الغامدي مهنئا، ومتعجبا: كيف لا تعرف أنك حصلت على جائزة الشيخ زايد؟ كان الخبر صاعقة. وخرجت من عالمكم، لأدخل عالمكم الافتراضي، فإذا الخبر عيان، وبدأت الرسائل تتقاطر، وحدث الانهمار الذي ما يزال متواصلا.
انبعث الحزن وتسرب الفرح، فإذا دمع عين يقطر ألما، ودمع الأخرى ينهمر أملا. تقابلت صورة مليكة وفاطمة أمي أمام ناظري. كنت أتمنى أن تفرح أمي لهذا الفرح، فإذا بي أبكي وفاتها بعد زمان. وأخبرتني زميلة مليكة أنها كانت تنتظر فوزي بالجائزة لتفرح. كيف تجتمع الأحاسيس في لحظة فينبعث الماضي في الحاضر، وتتوازى الصور المتناقضة فإذا الحزن فرح، والفرح حزن؟ وإذا بك في الآن الذي تستقبل التعازي، تنهال عليك التهاني؟
في أقصى لحظات السعادة وأقسى ساعات الشقاء تتعرف إلى ذاتك مقرونة بالآخرين، قد ينتهي المرء أحيانا إلى التشاؤم من الآخرين والعزلة عنهم.. وقد يصل إلى حد التفكير في القطيعة مع عالميهما: الواقعي والافتراضي. فليس فيهما سوى النفاق والضغينة والحقد والحروب التي لا معنى لها… لكن لحظات السعادة تجمع المتفرق، وتقرب القلوب، حين يكون الصفاء. كما أن ساعات الحزن، لقريب أو عزيز، تولد التعاطف وتؤدي إلى تناسي التوتر والجفاء. الزمن يكسر رتابة الحياة والعلاقات، فهل من متذكر أن الزمان دوّار؟
في لحظات الحزن المريرة أجدني في حاجة إلى الانقطاع عن التفكير في أي شيء. ولا يتسع فضائي الذاتي إلا إلى السماع: سماع كلام الله، وكلام الشعب. أما كلام الله فيدفعني إلى التأمل في الإنسان وتقلباته بين أهوائه ومصائره. أما كلام الشعب فهو الأغنية الشعبية، بعفويتها وعيطاتها وأناتها. فلا يبدو لي، في بحات الأصوات وآهاتها، ونقرات الأوتار، وحكاتها، وزفرات النفخ، إلا ما يعبر عن معاناة الإنسان العميقة التي لا يمكن التعبير عنها بغير هذا الكلام. وفي الانفعالات المزدوجة لا يسر لي سوى السماع ولا شيء سواه.
عشت اللحظة عينها منذ ربع قرن، حين أبكى السبتُ الجمعةَ. لم تتوقف فاطمة الزهراء عن البكاء منذ خروجها إلى العالم يوم الجمعة. لم يكن بكاؤها بكاءَ الوليد. كان، كما قالت الممرضة، صراخا وعويلا ونحيبا. وجاءنا خبر وفاة الوالد يوم السبت. وكانت التعازي تتقاطر، والتهاني تنهمر. لم تكن وقتها شبكات التواصل الاجتماعي الرقمي. كانت رسائل التهاني والتعازي تملأ صندوق الرسائل في مكتب الشعبة، وكان ساعي البريد يحمل يوميا عشرات الرسائل، وكان رنين الهاتف لا يتوقف. وجاءتني فكرة «سفر التهزيات»، مقالة في أنوال كتبتها تحت عنوان: « آه يا جمعة.. كم أبكاك السبت».
تعجبت آنذاك، وأستغرب الآن. لماذا لا نتعاطف مع بعضنا، ولا نتناسى «أحقادنا» ونفاقنا إلا في المُدلهِمَّات؟ لماذا لا نجعل ذاك التعاطف، وهذا التناسي ديدنا لنا في كل لحظات الحياة؟ أم أن الإنسان نسَّاء؟ إننا ندعو الله «مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين». وحين ينجينا الله منها إذا نحن نبغي «في الأرض بغير الحق»؟ كانت أمي كثيرا ما تردد: «الموت، أيا الموت/ كيف البطة (القارورة) وفيها الزيت/ معلقة في كل بيت/ عزيني، ونعزيك/ يا اللي بوها ديواني»؟ ويقول المغني الشعبي: «اللي ما يفرح لفرحي/ ويبكي لبكايا/ آش جلَّسو معايا»؟
جاءتني رسائل التعازي، وباقات الورود من كل الجهات: من بعض أساتذتي، ومن كثير من زملائي وطلبتي، وتلامذتي القدامى، ومن أصدقائي من كل أقطار الوطن العربي. منهم من أعرف، ومنهم من لم يسبق لي أن تعرفت عليه. كلهم يعبر عن التقدير والمحبة. وكلهم يرى أن الجائزة مغربية، أو مغاربية، أو عربية، ويفرح لها باعتبارها تتويجا له. كما أنها تكريم للعمل الجاد، وتشريف للثقافة العربية… أين يختزن كل هذا الحب؟ اندهاشي لا حد له، ودهشتي لا يحصيها عد؟ عاجز عن شكر من عزى ليوم الثلاثاء، أو هنأ ليوم الأربعاء. وأؤكد أن الخير سيظل في هذه الأمة، مهما كانت انفعالاتنا تجاه بعضنا، وأهواؤنا حيال أنفسنا وذواتنا.
تُبكي أيامٌ أخرى، وتفــــرِح أخـــرى أيامـــا أُخَر. يا مثقفي هـــذه الأمة: لنجـــعل كـــل أيامــنا للتواصل والتحاب. لنتجاوز الحساسيات المثقفية، ولنؤمن بالاختلاف ولنحترم المختلف، فتلك أعظم جائزة.

كاتب مغربي

سعيد يقطين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الحميد بناني المغرب:

    أحاسيسك الصادقة و التي مجزت بين الحزن والفرح فب نفس التوقيت وقدرتك المثيرة التي تمكنت من خلالها من المزج بين الحزن والفرح تنم على نبل أخلاقك وسمو فكرك وتمكنك من احساس آلام شعبك أيها المثقف الفذ.

  2. يقول صوت من مراكش:

    في البدء رحم الله المبدعة مليكة نجيب واسكنها الله فسيح جناته
    >
    استوقفتني كلماتك وانت في حاجة إلى الانقطاع عن التفكير في أي شيء. ولا يتسع
    >
    فضائك الذاتي إلا إلى السماع: سماع كلام الله، وكلام الشعب. كلام الله واضحة
    >
    الغاية من الإقبال عليه وهي متجلية في تدبره والتزود بمعانيه ، اما كلام الشعب
    >
    الذي لمحت له فيما فهمت بفن “العيطة ” الشعبي فقد جعلني اتوهم انك تنتقل
    >
    عبر آهات العيطة وبحاتها الى طقس بكائي صوفي اعقب تتدبرك ، فلعلمي
    >
    ان العيطة كفن كان مناسبة للبكاء و النحيب في بداية نشأته
    >
    عذرا استاذي سعيد إن تجاوزت قدري وشكرا على تذكيرك لي بجريدة
    >
    “انوال” الرائدة وهنيأ لك تحياتي

  3. يقول مزهر جبر الساعدي / العراق:

    الاستاذ المحترم والعزيز: أولاً هنيئاً لك بالجائزة، وأنت أستاذي بما أنجزت ورفدت المكتبة العربية، أكبر من الجائزة بكثير… تحياتي

إشترك في قائمتنا البريدية