منذ فترة قليلة، تعرفت افتراضيا، إلى شخص في منتصف العمر، وتواصل معي بوصــــفه عاشـــقا للكتابة الإبداعية بشتى أنواعها، يقرأ الكتب، ويستمع إلى الشعر في الأمسيات الشعرية، ويحضر العروض المسرحية، كلما وجد فرصة أو سمع بعرض شيق يقدم حيث يقيم.
واكتشفت بعد فترة، أنه يعرف معظم من كتبوا أو تنفسوا إبداعا في الدنيا، لا يعرف إنتاجهم فقط، من القصص والأشعار، ولكن حتى سيرهم الذاتية، سواء كانت جيدة، أو غير جيدة، ويحفظ حكايات عن كتاب وشعراء، قد لا تكون حقيقية، لكنه يعرفها، ويرويها بثقة تامة على أنها حقيقية. وقال لي إنه يعرف أنني كتبت أول مرة، حين كنت في مدينة الأبيض، في غرب السودان، وكنت ألقي الشعر في الحدائق العامة، وأنني بعت أغنيات لمغنين كثيرين بمبالغ زهيدة، ولم يكن ذلك حقيقة، لأنني لم أخرج بشعري من أوساط معينة، حيث كنت أقرأه للطلاب في احتفالات المدارس، في مدينة بورتسودان، وفي مصر، في تلك النشاطات الطلابية التي كانت تقام سنويا لاستقبال طلاب جدد، ووداع آخرين، انتهت علاقتهم بالتعليم الجامعي، وبيع الأغنيات هذا أيضا لم يكن واردا، لأنه لا شاعر مهما بلغ صيته وجبروته، وجمال أغنياته، يستطيع أن ينتزع شيئا من مغن، لا يهمه إن جاع الشاعر أو عطش، ودائما ما نسمع عن ذلك السؤال الذي يطلق في تلك الحالات التي يطالب فيها الشاعر بحقه: هل تبيع إحساسك؟ السؤال نفسه الذي سمعته كثيرا، ووثقته في سيرتي الروائية «قلم زينب». السؤال يتردد من مرضى يرتادون العيادات الطبية المسائية، التي تستلزم أجرة بسيطة، ويخاطبون الأطباء بجلافة: هل تبيعون إنسانيتكم؟
سألت ذلك الصديق الافتراضي، إن كان يكتب أو كتب من قبل، أي نوع من الكتابة، فأجاب بأنه لم يكتب حرفا قط، وعشقه للكتابة، عشق خالص، فهو ليس مبدعا، لكن يمكن اعتباره من المبدعين، إن شخصت حالة عشق الإبداع، والمبدعين بدقة، وحيادية تامة
المهم في الموضوع، ليس حكايات الرجل التي ربما يكون بعضها صادقا، ويكون معظمها، مجرد كلام لا يقترب من الصدق في شيء، إلا أنه ذكرني بأولئك الأشخاص الذين كانوا موجودين في حقل الإبداع والفن والرياضة، في أزمان ماضية، كل يتصدى بموهبة عظيمة للحقل الذي يحبه، يتصدى للإيجابيات، فيؤججها، وللسلبيات، فيحاول محوها أو التقليل منها بقدر المستطاع، أشخاص لم يغنوا، أو يعزفوا الموسيقى، أو يرقصوا، إن كانوا من محبي الفن وداعميه، لكنهم يعرفون كل من غنى ومن عزف ومن رقص، أشخاص لم يلعبوا الكرة، أبدا في حياتهم، لكنهم يعرفون تاريخها أفضل من أي لاعب، نشأ بها وفيها، يعرفون الأقمار والنجوم، وضربات الجزاء الشهيرة، ومن حصل على كأس العالم منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى اليوم.
وفي مجال الكتابة، يعرفون كل شيء أيضا، كما ذكرت عن الرجل الذي تعرفت إليه، واعتبرته شخصا نادرا في هذا الزمان، الذي لن تجد فيه مختصا بالكتابة، يعرف الكتابة، ناهيك عن واحد لا يكتب. هؤلاء الأشخاص، أعتبرهم موهوبين بلا شك، وتتجلى الموهبة في الذاكرة أولا، تلك التي تتصدى للحوادث القديمة، وتقيدها إلى أوتاد في الذهن، لتخرج عند الضرورة، ثم يأتي دور العشق الذي يعد دافعا كبيرا للدعم، فتجد هؤلاء ينفقون بسخاء حتى لو لم يكونوا يملكون، على الكتب والكتاب، مثل أن يساهموا في نشر كتاب أو ديوان شعر، ويقيمون له احتفالا، في مكان جيد، ويدعون الناس لحضور الاحتفال، وربما يتحدثون عن ذلك الكتاب أيضا.
أذكر في بدايات كتابتي للشعر، وأنا طالب في مدينة الأبيض، في غرب السودان، أن قصيدتي الأولى، تناقلها الطلاب، سواء بالحفظ أو نقلها بخطوطهم، من الورقة التي كتبتها فيها، ويبدو أنها وصلت لبعض أولئك المهتمين بالإبداع، الذين كانوا متوفرين في ذلك الوقت، حيث زارني فجأة، في البيت ثلاثة منهم، يعرضون تبني موهبتي ومساعدتي على الكتابة بشتى الطرق وعرض قصائدي على المطربين، وكانت عروضا مترفة لطالب لم يكتب سوى قصيدة واحدة، لكن ذلك التشجيع، جعلني أكرر المحاولة، وبالفعل ساعد أولئك المهتمون في إيصال قصائدي للمغنين، وحثوهم على تلحينها، وحضروا بروفاتها الأولى قبل إطلاقها، وقاموا بإلقائها في الحفلات، كتقديم لها، قبل أن يستمع إليها الناس مغناة، وكل ذلك، بلا أي مقابل، فقد كان يكفيهم عشق الكتابة والفن فقط.
في مدينة بورتسودان، كما أذكر، كان يوجد واحد اسمه نجم، أو قمر، لا أذكر جيدا، لم يكن شاعرا ولا مغنيا ولا ملحنا، لكنه كان كل هؤلاء دفعة واحدة، بمعنى أنه كان يجلس مع الشعراء، يستمع إلى أشعارهم، وينتبه إلى مواطن الخلل فيها، ويطالبهم بتعديلها، وربما أبدى ملاحظة دقيقة عن وصف شاعر لامرأة، فينبهه إلى أن هذا الوصف قديم، وقيل في أشعار سابقة، في فترة الأربعينيات والخمسينيات، ويسمعه جزءا من قصيدة فيها ذلك الوصف، أيضا يجلس مع المغنين، ينبههم إلى عيوب في أصواتهم، وترديدهم للحن، هنا يجب الارتفاع بالصوت، وهنا يجب الانخفاض وهكذا، واللحن نفسه كان يستخرج منه مساوئ عدة، يلح في تعديلها، ولا تنطلق الأغنية للجمهور، إلا حين يرضى عنها. كان أبا لتلك الحقبة البعيدة، على الرغم من أنها أبوة محلية، ولجيل محدود العدد، وأعتقد أنه موهوب كبير، ذلك الذي لا يبدع لكنه يفوق المبدعين، وكنت طلبت منه يوما وبدافع انبهاري به، أن يكتب أغنية، فابتسم بحسرة، ورد: لا أعرف كيف أكتب.
الآن، اختلطت الأمور كلها، لم يعد مثل هؤلاء الموهوبين الذين يرعون الإبداع، متوفرين في أي مكان، لم أعد أرى شخصا يلتم حوله الكتاب أو الشعراء، ليقوّم نتاجهم، ويضعهم على الطريق الصحيح، لم أر أبا لجيل ولا حتى أخا صغيرا لجيل جديد، كان يحتاج لمثل هذا الذي لا يتعاطى الكتابة أبدا، لكنه يفهم الكتابة، وأعتقد شخصيا أن رواية الحكايات التي لم تحدث، كأن يروي أحدهم قصة عن ماركيز، بوصفها من سيرة حياته ولا تكون كذلك، موهبة أيضا، وإن كان ذلك لا يكتب، لكن الهاجس الإبداعي موجود،. والرواة الشفاهيون أحيانا يتفوقون على الرواة الذين يدونون على الورق، كلها طرق فرعية، يسلكها الإبداع، ليصل إلى غايته.
أعتقد أننا نحتاج الآن بشدة لحماة الإبداع، الذي التوى وترنح، وشابته الشوائب، ولا أحد يتبنى أبوته، أو يتمناها.
كاتب سوداني
أمير تاج السر
الإبداع ليس له أب ولا أم هو نبتة فريدة بزهرة ليست كالزهور، هو لا سلف له ولا خلف، هو كالشمس تحجب إذا سطعت كل الاضواء
“في مدينة بورتسودان، كما أذكر، كان يوجد واحد اسمه نجم، أو قمر”، هذا أكيد قمر أو نجم الوالي
كلام جميل كالعادة .. لكنني أتمنى أن اعرف معنى أو دلالة اسم ” تاج السر ” .. والأسماء الاخرى المشابهة .. مع الاحترام ..