مدريد ـ «القدس العربي»: أهمل بعض الدارسين وأصحاب الأخبار في تاريخ الأندلس كثيراً من النصوص الشعرية التي صدرت عن الشاعرات الأندلسيات، بل إن الأدب الأندلسي النسوي على وجه الخصوص لم يحظ بالاهتمام الكافي من طرف الباحثين على الرغم من التأثير البليغ الذي أحدثه هذا الشعر على اختلاف أغراضه، وألوانه، وتعدد مشاربه، وتباين مقاصده في الآداب الأوروبية في القرون الوسطى، حيث بلغ في ذلك شأوا بعيدا ظل مجهولا أو مهمشا لزمن غير قصير.
من الأبحاث الرصينة، والدراسات المستفيضة التي نشرت مؤخرا في هذا المضمار، وأزاحت الستار عن أهمية، وجمال هذا الشعر، دراسة باللغة الاسبانية للباحثة والشاعرة الاسبانية – الكتلانية كلارا خانيسْ تحت عنوان: «الشعر النسوي في الأندلس». تقدم هذه الدراسة فكرة واضحة عن المدى البعيد الذي أدركته المرأة (عربية كانت أم أمازيغية) التي عاشت تحت الظلال الوارفة للحضارة الأندلسية من تقدم، ورقي ينمان عن حس مرهف، وشعور رقيق.
واعتبرت الباحثة موضوع شعر الجنس اللطيف في الربوع والأصقاع الأندلسية اكتشافاً عظيماً، وعنصرا مفاجئا بالنسبة لها في عالم الإبداع النسوي في القرون الوسطى على وجه التحديد. وعالجت موضوع الخلق الأدبي، والإبداع الشعري عند المرأة بشكل عام مستشهدة بما ذهبت إليه الكاتبة البريطانية فرجينيا وولف من آراء عن المصاعب، والاكراهات التي تواجه المرأة عند عملية الخلْق، والكتابة، والإبداع. حيث أشارت إلى أن الكتابة عند المرأة لا يمكنها أن تتحقق إلا إذا توفرت لديها شروط معينة منها التواجد في عصر بعينه يسمح لها فيه المجتمع بالمشاركة في الحياة العامة بشكل فعال، مع توفير مستوى ثقافي معين، فضلاً عن ضمان حرية القول، والافصاح، والبوْح، والتعبير، بالإضافة إلى الانتماء إلى نمط اجتماعي بذاته. وتضيف عنصراً آخر ليتسنى للمرأة مزاولة عملية الخلق والإبداع، وهو الانفتاح في العادات، والتقاليد، وعدم تحجرها، وجفائها، وجفوتها مثلما كان عليه الشأن في المجتمع الأندلسي الذي كان من أكثر المجتمعات انفتاحا، وانشراحاً وتسامحاً في القرون الوسطى.
وأجرت الكاتبة كلارا خانيس مقارنات، وتشابهات بين شعر المرأة العربية والأمازيغية بالأندلس وشاعرات اسبانيات عشن في عهود موالية للعهد الأندلسي، إلا أن قصب السبق في معالجة الموضوعات بنوع من الواقعية والذكاء مع دقة الملاحظة، وعمق التحليل كان من نصيب الشعر النسوي العربي في الأندلس. وأكدت الباحثة بدورها أن الشعر العربي بشكل عام في الأندلس كان له تأثير بليغ وحاسم في الشعر الاسباني فيما بعد على وجه الخصوص وفي الشعر الأوروبي بشكل عام، وقد تجلى ذلك لدى «الجيل الأدبي الاسباني 1927» الشهير الذي ينتمي إليه غير قليل من كبار المبدعين الاسبان ذوي الصيت العالمي البعيد أمثال فثينتي الكسندري الحائز على جائزة نوبل في الآداب، وكذا خوان رامون خمينيث فضلاً عن الشاعر الأندلسي رفائيل البرتي الذي يعترف صراحة في العديد من أعماله الأدبية بتأثير الشعر العربي في الأندلس عليه، وسواهم.
الحب العذري في الأندلس
تشير الباحثة إلى أن الحب العذري شاع، واشتهر في الأندلس مثلما كان عليه الشأن عند المشارقة، وكيف أن تأثيرات هذا الغرض على وجه الخصوص في الشعر الأندلسي انتقل عن طريق شبه الجزيرة الايبيرية في المقام الأول إلى فرنسا حيث دخل أرقى بلاطات الحب، والهوى، وصالونات الصبابة، ثم انتقل بعد ذلك إلى بعض البلدان الأوروبية الأخرى المجاورة وبالأخص إلى إيطاليا بواسطة برونيتو لاتيني الذي كان سفيراً لبلاده لدى بلاط العاهل الاسباني الفونسو العاشر الذي كان يلقب بالحكيم أو العالم في القرن الثالث عشر، والذي كانت تربطه بالحضارة العربية، والثقافة الإسلامية رابطة وثقى، وآصرة متينة نظراً لإعجابه الكبير بها ونهله منها، وتأثره بها حيث أمر بترجمة العديد من أمهات الكتب والمخطوطات العربية الشهيرة في مختلف العلوم والآداب والمعارف إلى اللغة الاسبانية منها على سبيل المثال وليس الحصر كتاب «كليلة ودمنة» لعبد الله بن المقفع وسواه من الأسفار الأخرى.
وتذهب الباحثة الكتلانية إلى القول أن التمعن في الشعر النسوي الأندلسي وقراءته أمران يبعثان على الاعجاب والانبهار، ويثيران دهشة الغرب سواء لدى الدارسين المتخصصين، أو الباحثين الجامعيين أو القراء على وجه العموم، نظراً لما تتضمنه هذه الأشعار من رقة، ورفاهية، وعذوبة وليونة، فضلاً عن الخيال الخصب المجنح الذي يطبعها، وحرية التعبير التي لا يمكن مقارنتها سوى بحرية التعبير المتوفرة في المجتمعات العصرية الراهنة. وتؤكد في هذا القبيل أن هذه الحرية لم يتسن للمرأة الغربية في تاريخها أن تتمتع بها إلى اليوم. وتورد الكاتبة رأياً للباحث الاسباني أدولفو فديريكو شباك مفاده أن الحرية التي تمتعت بها المرأة العربية في الأندلس على وجه الخصوص فاقت الحريات التي كانت لدى المرأة في المجتمعات الإسلامية الأخرى. ويضع المستشرق هنري بيريس في الاتجاه نفسه المرأة الأندلسية في مستويات ومراتب عليا تتساوى فيها مع الرجال، بل إن المرأة الأندلسية كانت تتوارد على نوع من الأكاديميات، والمعاهد التي تتعلم، وتتلقى وتلقن فيها الفنون والآداب المختلفة، والعلوم التي كانت سائدة ومنتشرة في ذلك العصر، وأشهر هذه المدارس، والأكاديميات كانت موجودة في مدينة قرطبة التي يقال إنها فاقت كل الأمصار في ذلك الإبان حيث يقول الشاعر في ذلك:
بأربعٍ فاقت الأمصار قرطبةٌ
قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان والزهراء ثالثةٌ
والعلم أعظم شيء وهو رابعها.
وتشير الباحثة أن الشأو البعيد الذي بلغته المرأة العربية والأمازيغية في المجتمع الأندلسي لم تدركه زميلتها الأوروبية في ذلك الأوان، وأن شعر الجنس اللطيف في الأندلس لم ينحصر في موضوع الحب، والغزل وحسب بل تعداه إلى مواضيع وأغراض أخرى مثل المدح، والهجاء، ووصف الطبيعة.
شاعرات مشهورات
ومن أشهر وأقدم الشاعرات العربيات الأندلسيات التي تعرضت لها الباحثة الاسبانية الشاعرة حسانة التميمية وهي من «إلفيرا» بمدينة غرناطة. ولدت خلال إمارة عبد الرحمان الداخل المعروف بـ (صقر قريش) (756 -788م) وأوردت الباحثة قصيدة مدح لها بعثت بها إلى الأمير الحاكم الأول، تطلب منه فيها حمايتها من جور حاكم غرناطة. ومن أشهر الشاعرات الأندلسيات المشهود لهن بطول باعهن في قرض الشعر وإجادة نظمه اللائي ورد ذكرهن في كتاب «نفح الطيب» للمقري، وهو من أكبر المصادر القديمة التي حوت ثبتاً مستفيضاً لكثير من أسماء الشاعرات الأندلسيات، وفي كتب: «جدوة المقتبس» للحميدي، و»الصلة» لابن بشكوال، و»التكملة» لابن الآبار، وفي سواها من المصادر العربية المشهورة الأخرى نجد الشاعرات:
لبنى كاتبة الحاكم المستنصر، والغسانية، وحفصة بنت حمدون الحجارية، وأم الكرام بنت المعتصم ابن صمادح، وغاية المنى، واعتماد الرميكية زوجة المعتمد، وعائشة بنت قادم القرطبية، ومريم بنت أبي يعقوب الأنصاري، وأم العلاء بنت يوسف الحجارية البربرية، وحمدة بنت زياد المؤدب وأختها زينب، وقمر جارية إبراهيم اللخمي، ونزهون الغرناطية، والشاعرة العبادية والدة المعتمد، وبثينة بنت المعتمد ابن عباد، وأسماء العامرية، وحفصة الركونية، والشاعرة الأميرة الشهيرة صاحبة ابن زيدون ولادة بنت المستكفي… الخ.
باقات من أشعارهن
وأكتفي كمثال نابضٍ بمدى جمالية هذا الشعر بأبيات لثلاث شاعرات أندلسيات، اللائي يقدمن خير دليل على مدى تفوقهن، وسيطرتهن على ناصية الشعر في الأندلس، وقد أثبتت الباحثة الاسبانية مقطوعات شعرية لإحداهن وهي ولادة بنت المستكفي صاحبة ابن زيدون التي تقول فيها:
ترقبْ إذا جن الليل زيارتي… فإني رأيت الليل أكتم للسر
ولي منك ما لو كان بالشمس لم تلحْ … وبالبدر لم يطلعْ وبالنجم لم يسر
وولادة هي بنت الخليفة المستكفي بالله، وكان ابن زيدون يتعشقها، وله فيها القصائد الطنانة، والمقطوعات البديعة، أشهرها نونيته التي يقول في مطلعها:
أضْحى التنائي بديلاً عنْ تدانينا
وناب عنْ طيب لقْيانا تجافينا
بنْتم وبنا، فما ابتلتْ جوانحنا
شوْقاً إليكمْ، ولا جفتْ مآقينا
وأما الشاعرة الثانية فهي حمدة أو حمْدونة بنت زياد المؤدب التي كان يقال لها خنساء المغرب لقوة شعرها، ولها المقطوعتان العجيبتان المشهورتان في المشرق والمغرب، واللتان ما زال أهل البلاغة يجعلونهما مثلاً أعلى للنسج على منوالهما تقول في المقطوعة الأولى:
ولما أبى الواشون إلا فراقنا
وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارة
وقل حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي
ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
والشاعرة الثالثة هي أم العلاء بنت يوسف الحجارية البربرية، ذكرها صاحب «المغرب في حلى المغرب»، ومن شعرها:
كل ما يصدر عنكم حسن
وبعلياكم تحلى الزمن
تعطف العين على منظركم
وبذكراكم تلذ الأذن
ومن يعش دونكم في عمره
فهو في نيل الأماني يغبن.
محمد محمد الخطابي