هل ثمة شيء اسمه الثورة السورية يدخل هذا الشهر عامه الخامس؟ وهل يمكن أن تدخل ثورة عاماً خامساً أكثر؟
السؤال الثاني هو البعد النظري للسؤال الأول. فالعلاقة شائكة بين مفهوم الثورة وبين حسابات الوقت والأمد. الثورات الكبرى الفرنسية والروسية والصينية تؤرّخ بسنة اطاحتها بالنظام القديم، لكن سنة الاطاحة هذه اما هي فاتحة حرب أهلية كما في الحالتين الفرنسية والروسية، واما هي خاتمة الحرب الأهلية كما في الحال الصينية. الراجح طبعاً ان الثورة السورية هي ثورة العام 2011 و»امتداده»، أياً كان المآل اللاحق للصراع بين المنتفضين على نظام الرئيس بشار الأسد وبين النظام ومؤيديه وداعميه. هنا، ليس انتصار الثورة هو الذي يشعل حرباً أهلية يولّدها منطق المزايدة داخلها، بالتفاعل مع ومناحي الثورة المضادة والتدخلات الأجنبية. بالأحرى، عدم انتصارها والتوازن الكارثي الذي سارت عليه الأمور منذ الأسابيع الأولى، والقمع الدموي الذي اعتمده النظام، والنزيف التحتي الذي شهده جيشه في مقابل تماسك نخاعه الشوكي ومعادلته المناطقية والطائفية، والطابعين المتداخلين «الجوهري» و»السرابي» لحسابات الأكثرية والأقلية بالميزان الطائفي، هو الذي دفع باتجاه الحرب الأهلية. استدراك توضيحي: الاحتساب بميزان أكثرية وأقلية «جوهري» من حيث رياء أي مكابرة على الرابطة الطائفية – المناطقية للمجموعة الحاكمة والتي اتخذت من السلك العسكري والتأطير الحزبي له رافعة لامساكها بالقبضة الأحادية المزمنة، بل الطامحة للأبدية. و»السرابي»، لأنّ الأنسجة الأكثرية من المجتمع السوري، يجمعها الانتماء للإسلام السني كمشترك عام، لكن ما يجمعها يعود فيقسمها، ذلك أنها تشترك في الانتماء إلى ديانة كونية، وشعور بالانتماء إلى مجال واسع جداً، وصعب استجماعه وتسخيره في نفس الوقت. تجاوز الأكثرية السنية لنفسها تحت شعار «الشعب السوري واحد» فيه ورطة، وموال تكتيل نفسها كقوم أكثري في مقابل القوم أو الأقوام الأقلية فيها ورطة.. الاستحالة. كل هذا جعلها حرباً أهلية لا هدنة فيها ولو ليوم واحد، وان وجد سجل من المفاوضات والمساعي بلا طائل، كون النظام يفاوض على ما ليس يمكن، من حيث طبيعته، ان يحتمله، اي اصلاح ولو جزئي داخله، وكون بعض الحسابات كانت تنبني على انه ينازع ويحتضر، في حين انه نجح في التحول سريعاً، وبجدارة مرعبة، من نظام يبدو محتضراً إلى نظام احتضار دموي، لا يتحكم تماماً بالحرب الأهلية، لكنه يتحكم باستمراريته فيها إلى اوسع حد.
ليس ثمة تناقض مطلق بين مفهومي الثورة والحرب الأهلية. لكن ثمة فوارق أساسية بين حالة وحالة. في الثورتين الفرنسية والروسية اتخذت الحرب الأهلية نفسها طابعاً ثورياً. عاد ذلك بصفة خاصة إلى كون الحربين الأهليتين التاليتين لانتصار الثورتين الفرنسية من عام 1789 والروسية من عام 1917 حربين طبقيتين بامتياز، اضافة إلى اشتغال الرؤى اليوتوبية التي تريد شقلبة المجتمع رأساً على عقب، ما أدى بثورة فرنسية، كانت ترمي أساساً لتنظيم الاكليروس في نطاقها، وتجذير منحاه الاستقلالي المتصاعد عن البابوية طيلة القرن الثامن عشر إلى الاصطدام سريعاً معه، ومن ثم إلى الاصطدام بالديانة الكاثوليكية من حيث هي كذلك، وصولاً إلى التجريب الديني الثوري في «عبادة الكائن الأسمى» وبدع أخرى. تطويع الكنيسة كانت نتيجته الطلاق الجمهوري معها، ما لم يتبلور الا بعد احد عشر عقداً من بداية هذا الصراع. وفي المقابل، الثورة الروسية التي آلت سريعاً للأكثر عدائية تجاه الدين والكنيسة، سرعان ما اتخذت مساراً مفارقاً: تحويل الالحاد نفسه إلى ديانة، يتعرف الحزب الثوري من خلاله على نفسه ككنيسة، ثم الاستعانة بالدين القديم عندما استدعت ظروف الاجتياح الهتلري ذلك. التاريخ الديني للثورتين الفرنسية والروسية متشعب وهو ميدان معرفي خطير بحد ذاته. فهل كان للثورة السورية بدورها تاريخها الديني؟ هي ثورة على نظام «علماني» من حيث هو يلتزم بعقيدة ايديولوجية لا تجد مصدرها في الدين، وليس من جهة قوانين الأحوال الشخصية مثلاً لمواطنيه. لكنها ثورة الشرخ الكبير بين نخبها، ومقاتليها، وقواعدها. القواعد الشعبية لهذه الثورة في فترة النضال الجماهيري، بدت أميل إلى جعل الانتماء الديني والتدين من عناوين الصراع مع النظام، ومدخل لـ»أجنبته» – تعميم النظرة له كنظام «أجنبي» نسبة إلى «الشعب» الثائر. لكن ذلك لم يأخذ نسقاً عقائدياً مستقراً وواضحاً. في المقابل، بدت المفارقة العسكرية لافتة، بين الاسم «العلماني» للجيش السوري الحرّ والاسماء الدينية ذات الرنّة المذهبية التصادمية أحياناً لكتائبه. كان هذا قبل أن يشيع تبرؤ الفصائل المقاتلة من شرك «الديمقراطية» لتوسع مشكلتها مع الاستبداد الأسدي إلى مشكلة مع الديمقراطية أيضاً، وليكسب تنظيم «الدولة» رحلة المزايدة حين لم يعد مراده «أجنبة» النظام في سوريا، بل «أجنبة» سوريا نفسها، والتشهير بها ككيان صنمي مفروض على الشعب «السوري» وينبغي تحريره منه. هذا عن القواعد و الفصائل المسلحة، أما نخب المعارضة السورية فإنها فضّلت تأجيل الخوض في «المسألة الدينية» وكانت لعبتها الأسهل الرد على الشاعر ادونيس في مسألة عدم تجويزه انطلاقة ثورة من المساجد.
وسريعاً تحول التاريخ الديني للصراع الحالي في سوريا إلى بوابة الصراع المذهبي السني الشيعي، والصراع بين المفاهيم المختلفة للتسنن، في حين برز تنظيم «الدولة» لوحده كحالة يمكن مقارنتها مع المشاريع اليوتوبية في سجل الثورات الكبرى، لكن هذه المرة، من زاوية اضافة ضلع جديد للمثلث: ثورة «تؤجنب» نظاماً تخرج عليه، تنظيم «يؤجنب» الكيان السوري نفسه، بمفاعيل توحيدية لشرق سوريا مع غرب العراق، لكن أيضاً تنظيم «يؤجنب» الدين نفسه، ويصيّره شيئاً «اكزوتيكياً». اللافت في كل هذا، ان ثورة يمكن بشراهة، اعمال التحليل الطبقي لانفجار أريافها، لم يشهد البعد الاجتماعي، وضمناً الطبقي لها، أي اعتراف سياسي أو برنامجي به. الليبراليون أرادوها ثورة «حرية» بلا فاصل «رغيفي». الإسلاميون مقتنعون بأن الانصاف آت بتحكيم الشرع، ورغبتهم في الفتنة بين المذاهب تتحول إلى سلام اجتماعي بين الطبقات. ثورة الفلاحين السورية لبّست عباءتين نافيتين لها في وقت واحد: ليبرالية وإسلامية. أما النظام، فيلبس بدل العباءة ألف، فهو علماني من جهة، ويتبع ثورة خميني من جهة، وهو فلاحي من جهة، ويحمي المدن من الفلاحين من جهة. هذا التفاوت في القدرة على انتحال العباءات والتكيف معها ما زال يطيل من عمر النظام، ويأكل من قابلية الكيان السوري نفسه للحياة المديدة.
٭ كاتب من لبنان
وسام سعادة
الثورة بسوريا كانت بين السوريين والنظام
الآن الثورة هي بين السوريين وغير السوريين
فبشار الأسد ونظامه أصبحوا رهينة بيد ايران وأتباعها
السوريين لم ينصرهم أحد عدا الله ولذلك فحقا يقولون يا الله ما لنا غيرك يا الله
ولا حول ولا قوة الا بالله
عنوان رائع يا د. وسام سعادة، خصوصا وأنت أنهيت مقالتك بكاتب من لبنان، وحسب مفهوم العنوان لدولة “الحداثة” فأنت أجنبي كذلك، ومن وجهة نظري إشكالية العملية السياسيّة في لبنان لا تختلف عن اشكالية العملية السياسيّة في عراق ما بعد 2003، فقد قامت قوات الاحتلال الأمريكي بمحاولة استنساخ العملية السياسيّة في لبنان.
وعلى وزن عنوانك أقترح عنوان مواز لعنوانك هو: “نفاق” النظام – “نفاق” سوريا – “نفاق” الدين نفسه.
أنا أظن على الأقل بسبب حزب البعث العربي الاشتراكي، لا يمكن فصل سوريا عن العراق، ناهيك أنَّ كلاهما يمثلا وادي الرافدين مع تركيا، فالصراع هنا من وجهة نظري ما بين المصداقيّة والشفافيّة وما بين الأقنعة أو العباءات كما أطلقت عليها في مقالتك.
أنا أظن سبب عدم نجاح انتفاضة أدوات العولمة في نسختها السوريّة، هو كثرة عدد المثقفين والسياسيين أو المنافقين في سوريا، حيث معيار المواطن “الصالح” في دولة “الحداثة” هو المواطن الأكثر نفاقا، كما هو حال أدونيس ودريد لحام وغيرهم الكثير.
ما رأيكم دام فضلكم؟