الكتابة عن الأوضاع في سوريا ليس بالأمر السهل، فكل كلمة ممكن أن تفسر على أنك مع هذا الطرف أو ذاك، ولا أحد يقبل منك موقفا وسطا أو محايدا أو موضوعيا، فالأمور إما أبيض وإما أسود، إما تصنف أنك مع النظام وتقر بأن المعارضة كلها وبلا استثناء عملاء ومرتزقة وإرهابيون، أو أنك مع المعارضة وضد النظام الديكتاتوري الفاشي.
الكاتب السياسي يسعى لاجتزاء الحقائق وإغفال بعضها وتضخيم البعض الآخر وليّ عنق الواقع بهدف تبرير موقفه، فلا يرى في الصورة الشاملة إلا ما يساند حججه أكان مع النظام أو ضده. أما الأكاديمي فيحاول أن يرسم طريقا وسطا يضع الحقائق بقدر من الموضوعية ويعرض طرفي المعادلة بما لها وما عليها، فيظهر عيوب النظام وجرائمه، ويعرض ضعف المعارضة وتفككها وارتهانها للخارج، ويشرح الأمور بعيدا عن التسفيه والتبسيط، بتعميم نظرية المؤامرة الكونية التي تحاول إسقاط آخر موقع من مواقع منظومة الممانعة، أو كما تدعي المعارضة أن مؤامرة دولية لإبقاء هذا النظام الأشرس في تاريخ المنطقة، الذي ظلت حدوده مع إسرائيل آمنة بدون أن تطلق طلقة واحدة منذ عام 1973. فهل من إمكانية لتقديم طرح موضوعي بعد أربع سنوات من الصراع الدموي الذي فكك سوريا ولم يفكك النظام، وطوح المعارضة الوطنية خارج المعادلة ليتم استبدالها بهذه الجماعات الظلامية التكفيرية الهمجية التي تجز الرؤوس وتحرق الكنائس وتدمر التراث وتجتث الأقليات باسم الإسلام. ولنستعرض بعض المحطات في السنوات الأربع الماضية.
عندما قام حافظ الأسد بانقلابه في 16 نوفمبر 1970 كان عدد سكان سوريا نحو 6 ملايين نسمة، معظمهم يعيشون على الزراعة. وعندما بدأت المظاهرات السلمية في سوريا في 15 مارس2011 بلغ عدد سكان سوريا نحو 24 مليونا، معظمهم من سكان المدن بعد أن أهملوا الأرض وتوجهوا للعاصمة أو حلب بحثا عن وظيفة حكومية، وكان النظام يستوعب هذه الجموع في الأجهزة الأمنية وتوابعها التي فاقت 16 جهازا. لقد بلغت نسبة البطالة عام 2011 نحو 25٪ لجيل من الشباب 60٪ منهم دون سن 25، وأكثر من ثلثي السكان لم يشهد في حياته رئيسا لسوريا إلا حافظ وابنه بشار. جيل تعلم الخوف من الدولة وبطشها وأجهزة المخابرات المتعددة. لقد علمت الناس مجزرة حماة عام 1982 أن الحل الأمني هو الأسرع والأسهل والأقل كلفة والأكثر تأديبا، لمن تسول له نفسه أن يتحدى النظام ولو بكلمة أو أغنية أو شعار أو منشور…. لقد تحولت سوريا خلال حكم الأب إلى سجن كبير تفوق على كافة أنظمة القمع في العالم العربي مجتمعة. ومع مجيء بشار الابن بطريقة لا علاقة لها بالدستور أو الشرعية أو الديمقراطية، كانت هناك فترة ارتياح وأمل، مما دعا مجموعة من الغيورين على وطنهم أن يصيغوا بيان الـ99 فيما سمي «ربيع دمشق» الذي طالب أولا بإلغاء حالة الطوارئ، لكنه لم يدم أكــــثر من ستة أشهر من خطاب الرئاسة الأول لبشار بتاريخ 17 يوليو 2000 إلى 17 فبراير 2001، وضع بعدها معظم موقعي البيان في السجن وأقفلت المنتديات السياسية والأدبية. لقد حدثت الانتكاسة وعادت سوريا إلى سابق عهدها دولة وصفها الشاعر نزار قباني بدولة «قمعستان».
في العشر السنوات اللاحقة، أعاد النظام الجديد إنتاج النظام القديم بطريقة أكثر شمولية، وأصبح هامش الحريات العامة ضيقا جدا. ومقارنة مع أنظمة تونس ومصر واليمن وليبيا، يتفوق النظام السوري في كثير من النقــــاط، خاصــــة في مركزية القرار السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي في أيدي مجموعة قليلة جدا من العائلة نفسها، من بينهم آصف شوكت ورامي مخلوف وماهر الأسد.
في 31 يناير، وفي موجة انطلاق الربيع العربي وفرار زين العابدين من تونس وانطلاق الثورة المصرية من ميدان التحرير، أكد الرئيس بشار الأسد لـ»وول ستريت جورنال» أن ما يجري في المنطقة لن يصل إلى سوريا، لأن سوريا مستقرة. «وإذا أردت أن تتكلم عن تونس ومصر فنحن خارج ذلك كله، وفي المحصلة نحن لسنا تونسيين ولا مصريين. نحن لسنا نسخة عن بعضنا بعضا».
هروب زين العابدين وسقوط مبارك قبل شهر من هذا التاريخ وانطلاق الثورات في اليمن والبحرين والمظاهرات العارمة في كل من المغرب والجزائر والأردن وحتى عمان والسعودية، دفع بمجموعة من الصبية في مدينة درعا بالكتابة على الجدران شعارات سمعوها تنطلق من حناجر الملايين العرب «الشعب يريد إسقاط النظام». قامت الأجهزة الأمنية بجمعهم في معسكرات الاعتقال، وعندما ذهب أهالي الأطفال بعد اختفائهم التقوا بالمحافظ فيصل كلثوم ومسؤول الأمن السياسي العميد عاطف نجيب لإعادة الأطفال الذين كانوا بين سن الخامسة والعاشرة. فقال لهم المحافظ: «ما في عندنا أولاد. إنسوا أولادكم وروحوا خلفوا غيرهم، وإذا ما بتعرفوا بنوديلكم شوية رجال من عندنا يخلفولكم أولاد غيرهم». كانت تلك الشرارة التي أطلقت الحراك السلمي، خاصة عندما عاد بعض الأطفال وآثار التعذيب بادية على أجسامهم. تجمع نحو ألف محتج في الجامع العمري وشكلوا سياجا بشريا حول المسجد الذي تحول إلى نقطة الاحتجاج. حوصرت درعا لأكثر من شهر وقطعت عنها الكهرباء والماء والاتصالات ووضعت الحواجز على مداخلها وقتل العديد من المواطنين. وعندما تجمع المتطوعون من القرى المجاورة، وهبوا لنصرة درعا كانت الحواجز الأمنية لهم بالمرصاد والطائرات المروحية كانت تتصيد الناشطين وانتشر القناصون على سطوح المنازل، وكان عدد القتلى في تزايد من ساعة لساعة ومن يوم لآخر.. بدأت حركة تضامن مع درعا عبر سوريا كلها فانطلقت المظاهرات السلمية يوم 18 مارس تحت شعار «جمعة الكرامة» في حماة ودير الزور وإدلب وحمص وبانياس وغيرها والشعار «سلمية سلمية» كان يتردد عبر البلاد إلا أن قوى داخلية وأخرى خارجية لا تريد للثورة السورية أن تبقى سلمية… فكانت النتيجة كما نراها الآن.
بعد سنتين من انطلاق الثورة السلمية بدأنا نفتش عن أسباب بقاء النظام في سدة الحكم بعد سقوط نحو 80 ألف ضحية وتهجير نحو مليون سوري وتشريد أكثر من ثلاثة ملايين وتدمير الأسواق والمعالم التاريخية والمساجد والدوائر الحكومية والمعابر والمعسكرات والمطارات العسكرية وغيرها. لقد تم تغيير وجه الثورة الجميل الذي كان يمثله غياث مطر وحمزة الخطيب وإبراهيم القاشوش وعلي فرزات ومي سكاف وياسين الحاج صالح ومشعل تمو ورزان زيتونة وفدوى سليمان والآلاف مثلهم إلى صورة أخرى مغايرة يمثلها رجال مسلحون متطرفون يمارسون القتل والتدمير.. وكأن الذي يجري في سوريا حرب بين طرفين مسلحين. أثناء هذا التحول من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة، دخل على خط الثورة فرقاء خارجيون ليسوا معنيين بسوريا ولا بشعبها ولا بدورها التاريخي، وعملوا على تخريب سوريا الوطن والدولة والبنى التحتية والإمكانات الاقتصادية والعمرانية لتتحول إلى دولة على أبواب الفشل التام.
كما أن المعارضة الوطنية وقعت في عدد من المطبات التي أضعفت مواقفها، بل وأساءت إليها وانقسمت بين الداخل والخارج. وانتشرت المجموعات المسلحة التي تزيد عن الثلاثين مجموعة، ما أثار مخاوف الكثير من داعمي الثورة السورية. لقد توهمت بعض أطراف المعارضة السورية أن سقوط النظام بات وشيكا، وأن الوقت حان لتوزيع الحقائب والمواقع والمناصب. من جهة أخرى اعتقدت المعارضة أن الدول الغربية حسمت موقفها من مسألة إسقاط نظام بشار، وأن السلاح النوعي في طريقه إليهم. كما أوهمت دول الخليج كذلك المعارضة السورية أن سقوط بشار أمر مفروغ منه. لقد تبنت هذه الدول فكرة تمويل وإرسال المتطوعين من الخارج الذين بدأوا يتدفقون على سوريا من الحدود التركية والأردنية واللبنانية. إن انتشار هذه العناصر المتطرفة أساء لمجموع الثورة السورية ودفع الكثير من المترددين إلى أن يعيدوا النظر في مواقفهم قائلين: إذا كان هؤلاء سيكونون بديلا لنظام بشار فلا نريد هذا البديل.
تمر الذكرى الرابعة للحراك السلمي الذي بدأ في درعا، وتكاد سوريا الوطن وسوريا الشعب وسوريا الجغرافيا أن تتفكك بشكل نهائي، بعد أن تقاسمت البلاد جماعات «داعش» و»النصرة» والنظام وجماعات أخرى في معظمها إسلامية، ويكاد الجيش الحر أن ينتهي إن لم ينته فعلا. تدفق آلاف المقاتلين الأجانب للانضمام إلى المتطرفين، بينما استقدم النظام قوات الحرس الثوري الإيراني وكتائب أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق العراقية وبالتأكيد حزب الله اللبناني، وأصبح النظام رهينة هذه المجموعات. أتاحت هذه القوى فرصة للنظام أن يسترد مواقعه بعد أن وصل نقطة أقرب إلى النهاية، بعد الانفجار الذي وقع في مقر مبنى الأمن القومي، وأودى بحياة آصف شوكت وداود راجحة وهشام بختيار وحسن تركماني. كانت المعارك منتشرة في دمشق وضواحيها، وقد أعلن يومها الجيش الحر «أن معركة تحرير دمشق بدأت». لكن النظام استطاع أن يسترد توازنه بعد أربعة فيتوات روسية –صينية، وتدفق المقاتلين الإيرانيين وحزب الله وتشتت المعارضة وبعثرتها، وظهور التنظيمين الأكثر دموية وإرهابا النصرة و»داعش»، ما غير المعادلة تماما وبدأت عملية إعادة تأهيل النظام الذي «كانت أيامه معدودة»، إلى الموقف الذي طرحه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يوم 13 مارس بضرورة التفاوض مع الأسد، بعد أن «كانت أيامه معدودة»، حسب تصريحات أوباما في بداية الثورة.
فشلت كل محاولات احتواء الصراع سلميا، انطلاقا من إعلان جنيف 30 يونيو 2012، التي قادها عنان فالإبراهيمي ثم دي مستورا. لكن الشعب السوري فقد في السنوات الأربع الماضية ما يزيد عن 220000 شخص وتشرد نحو 8 ملايين داخليا ولجأ أربعة ملايين إلى دول الجوار، ويقبع في السجون ما يزيد عن 80000 بينما قتل نحو 11000 تحت التعذيب. لقد تم توثيق على الأقل 34 مذبحة، 22 ارتكبها النظام و8 ارتكبتها المعارضة وحتى قوات التحالف ارتكبت مجزرتين راح ضحيتهما 64 مدنيا من بينهم 8 أطفال.
في الذكرى الرابعة يبدو أن الطرق سدت للخروج من مأساة تدمي القلوب وتوجع الناس جميعا. لقد بتنا نخاف ألا يكون هناك ذكرى خامسة للحراك الذي صنعه أطفال درعا بطباشيرهم. فهل من حقنا أن نأمل أن تكون سنة 2015 سنة الحل؟
٭ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك
د. عبد الحميد صيام
للاسف ان معظم الحديث عن سوريا يقع على السلطة و المعارضة و كلاهما يدعي تمثيل الشعب السوري و كلاهما لا يمثل الا اقلية تتقلص كل يوم
للاسف لا احد يتحدث عن اغلبية الشعب السوري الذي كان و ما زال يستحق الحياة بحرية و كرامة
(خلي بالك على بلادك… على جارك على ولادك على أرضك هاي الطيبة … على سورية الحبيبة يا سوري فتح عينك … ربي ينصرك ويعينك وين الناس مودينك… عن أرضك وأرض جدادك يكفي قتال يكفي … هذا القتال شفادك).
خلي بالك على بلادك… على جارك على ولادك
على أرضك هاي الطيبة … على سورية الحبيبة
يا سوري فتح عينك … ربي ينصرك ويعينك
وين الناس مودينك… عن أرضك وأرض جدادك
يكفي قتال يكفي … هذا القتال شفادك