إسطنبول ـ «القدس العربي» : تشهد دوائر صنع القرار في تركيا حراكاً سياسياً ودبلوماسياً واسعاً منذ أيام في ظل مساعي أنقرة لرسم خريطة تحالفاتها مع دول المنطقة والعالم من جديد. وبينما تستمر الأزمات السابقة مع بعض الدول ظهرت خلافات جديدة لتلقي بظلالها على نجاحات الدبلوماسية التركية في تحقيق تقدم في العلاقات مع العديد من الدول الهامة.
وبعد أيام قليلة من زيارة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي إلى العاصمة التركية، وصلت أمس المستشارة الألمانية إنغيلا ميركل إلى أنقرة، في محاولة لمنع الإندفاع التركي لإقامة علاقات أوسع مع بريطانيا، التي خرجت حديثاً من الإتحاد، والابقاء على تعاون سياسي واقتصادي أفضل بين تركيا والإتحاد الأوروبي بالإضافة إلى منع انهيار إتفاق اللاجئين في ظل الأزمة الجديدة المتصاعدة بين تركيا واليونان. وفي الوقت الذي بدأت لجان تركية روسية إيرانية التباحث في آلية الرقابة على اتفاق وقف إطلاق في سوريا، أجرى مسؤولون أتراك وإسرائيليون، لأول مرة منذ 7 سنوات، مباحثات معمقة لتطوير العلاقات بين البلدين، فيما كشفت مصادر تركية أن الرئيس رجب طيب أردوغان سوف يقوم الأسبوع المقبل بزيارة إلى دول مجلس التعاون الخليجي تهدف إلى رفع مستوى التنسيق السياسي والتعاون الاقتصادي بين الطرفين.
ميركل تحاول إنقاذ اتفاق اللاجئين
وقد وصلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى العاصمة التركية أنقرة، أمس، في أول زيارة لها منذ تراجع العلاقات بين البلدين عقب محاولة الإنقلاب الفاشلة في تركيا منتصف يوليو/تموز الماضي واتهام أنقرة لبرلين بعدم إدانة محاولة الإنقلاب والدفاع عن الانقلابيين.
ميركل، التي أجرت مباحثات واسعة مع الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس وزراءه بن علي يلدريم حملت في جعبتها العديد من الملفات، أبرزها محاولة تخفيف التوتر المتصاعد بين تركيا واليونان على خلفية رفض الأخيرة تسليم 8 ضباط انقلابيين إلى تركيا، الأمر الذي أثار غضب أنقرة التي وصفت القرار بـ»السياسي».
وفي هذا الإطار تركز ميركل على انقاذ اتفاق اللاجئين، وحث أردوغان على عدم تنفيذ تهديد وزراء حكومته بقرب إلغاء اتفاق إعادة قبول اللاجئين الذي تعتبر برلين أكثر المستفيدين منه، كونه تمكن من تقليص أعداد المهاجرين الذين وصلوا إلى أراضيها العام الماضي بنسبة تجاوزت الـ70٪. كما تسعى ميركل إلى كسب ود قرابة 3 مليون تركي يعيشون في ألمانيا قبيل انتخابات مفصلية تخوضها بعد أشهر قليلة، كما تسعى لتعزيز التعاون مع أنقرة التي تمتلك ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي لمواجهة قرارات الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، وإلى الحفاظ على درجة متوازنة من العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي لمنع اندفاع أنقرة إلى معسكر بريطانيا التي خرجت حديثاً من الاتحاد وتسعى لإقامة نظام اقتصادي خاص بها.
وتراجعت العلاقات بشكل كبير بين البلدين عقب اتهام تركيا لألمانيا بـ»إيواء انقلابيين وإرهابيين» ودعم وإيواء أشخاص يلاحقهم القضاء التركي، بينهم صحافيون وأنصار لفتح الله غولن وحزب العمال الكردستاني.
قفزة إقتصادية مع بريطانيا
وعلى الرغم من أهمية الملفات السياسية التي بحثتها رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي مع كبار المسؤولين في أنقرة، السبت، إلا أن الزيارة طغى عليها الطابع الاقتصادي مع تأكيد رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم أن الوزراء المعنيين في بلاده سيواصلون العمل مع نظرائهم البريطانيين، من أجل توقيع اتفاقية تجارة حرة بين البلدين عقب خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. وأكد يلدريم أن الجانبين قررا العمل بشأن كيفية تطوير العلاقات التركية البريطانية بشكل منفصل عن الإتحاد الأوروبي، وأن تطبيق ذلك سيتزامن مع خروج بريطانيا من الاتحاد، كما كشف عن أن إدارتي الطيران المدني التركية والبريطانية ستجريان خلال العام الحالي تدريبات مشتركة وأن شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية وقعت مع شركة «بي أي إيه سيستمز» للصناعات الجوية والدفاعية البريطانية، اتفاقا لتطوير مشروع الطائرات المقاتلة التركية وتطوير طراز جديد من الطائرات الحربية. كما أوضح أردوغان أن البلدين يهدفان إلى زيادة حجم التجارة الثنائية بينهما من حجمها الحالي البالغ 15.6 مليار دولار إلى حوالي 20 مليار دولار.
بدء التوتر مع إدارة ترامب
مع تولي الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب مقاليد الحكم في الولايات المتحدة رسمياً أعربت تركيا عن أملها أن تختلف سياسته عن خلفه باراك أوباما، الذي شهدت فترة حكمه تراجعاً كبيراً للعلاقات بين البلدين بسبب الدعم المتواصل للوحدات الكردية في سوريا ورفضه تسليم فتح الله غولن المتهم بإدارة الانقلاب إلى تركيا.
لكن آمال تركيا سرعان ما بدأت تتبخر وظهرت الأزمة جلية مع الإدارة الأمريكية الجديدة التي أعلنت رسمياً، أمس، تزويدها الوحدات الكردية في سوريا، بعربات مدرعة في إطار قتال قوات سوريا الديمقراطية ضد تنظيم الدولة والاستعدادات لمهاجمة الرقة، وهو ما تعتبره تركيا خطراً على أمنها القومي. الخطوة الأمريكية الجديدة أثارت غضب أنقرة ودفعها للقول إنها بلاده «لن تظل صامتة حيال الدعم المقدم من الولايات المتحدة الأمريكية لمنظمة حزب الاتحاد الديمقراطي (الذراع السوري لمنظمة بي كي كي) الإرهابية»، بحسب تعبير المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم ياسين أقطاي الذي أضاف أن بلاده «تترقب الوضع بقلق، وستقوم باللازم عند الوقت المناسب».
مكاسب اقتصادية في الخليج
وفي زيارة لم يعلن عنها رسمياً بعد، أكدت مصادر تركية لـ«القدس العربي» أن الرئيس أردوغان ينوي القيام بجولة خليجية الأسبوع المقبل سوف تشمل زيارة كلاً من السعودية وقطر والبحرين وتركز على التعاون السياسي وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا خلال الأشهر الأخيرة يسعى أردوغان لتحقيق مكاسب اقتصادية، وجلب مزيد من الاستثمارات ورؤوس إلى الأموال الخليجية إلى بلاده في محاولة أيضاً لوقف تراجع قيمة الليرة التركية التي فقدت قرابة 9٪ من قيمتها منذ بداية العام الجاري.
وفي نوفمبر/ تشرين الماضي، عقد بالبحرين منتدى الأعمال والاستثمار الخليجي التركي الثاني، بمشاركة نحو 600 مستثمر بحريني وخليجي وتركي، وارتفع مستوى التبادل التجاري بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي خلال عام 2015 إلى حوالي 14.4 مليار دولار.
ومن المقرر أن تحتضن الدوحة أيام 18-20 أبريل/نيسان المقبل لقاء يجمع بين رجال الأعمال الأتراك ونظرائهم القطريين، في إطار «معرض إكسبو تركيا في قطر»، لدفع العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين البلدين وعلى قائمة الحضور 300 شركة وحوالي 5.000 رجل أعمال.
الأزمة تتصاعد مع اليونان
وتتصاعد بشكل متسارع الأزمة التي اندلعت قبل أيام بين تركيا واليونان على خلفية رفض الأخيرة تسليم أنقرة 8 ضباط انقلابيين لا سيما مع التصريحات «النارية» للمسؤولين الأتراك والتهديدات الدبلوماسية المتلاحقة من قبلهم وصولاً للاحتكاك العسكري الذي كاد أن يحصل، الأحد، بين جيشي البلدين.
وبعد يومين من احتكاك جرى بين سفن حربية تركية ويونانية خلال زيارة قادة الجيش التركي لجزيرة متنازع عليها بين البلدين، قال وزير الدفاع اليوناني، أمس، إن مقاتلات تابعة لسلاح الجوي التركي انتهكت مجال بلاده الجوي الأربعاء، 138 مرة.
وبينما قالت وسائل إعلام تركية إن مواجهة صعبة جرت بين المقاتلات الحربية التركية واليونانية في أجواء بحر إيجه، هاجم وزير الدفاع التركي نظيره اليوناني، فيما هدد وزراء آخرون بإلغاء اتفاق اللاجئين اذا لم تسلم اليونان الجنود الذين مددت، أمس، فترة اعتقالهم لثلاثة شهور.
العلاقات مع اسرائيل
ولأول مرة منذ 7 سنوات وفي تطور لافت للعلاقات بين البلدين، استضافت العاصمة التركية أنقرة، الإربعاء، أول اجتماع للمشاورات السياسية بين تركيا وإسرائيل، منذ عام 2010، وذلك عقب تطبيع العلاقات بينهما بحضور مستشاري وزارة الخارجية للبلدين على خلفية الإتفاق المبرم في حزيران/ يونيو 2016 بين الجانبين بخصوص تطبيع العلاقات.
وأوضحت مصادر تركية أنه تم بحث امكانات التعاون في مجالات الطاقة، والاقتصاد، والثقافة، والسياحة، إلى جانب بحث التطورات في منطقة الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط. وأضافت أن الجانبين أكد على أهمية العلاقات التركية-الإسرائيلية من ناحية أمن واستقرار المنطقة.
ومن المتوقع أن يجري وزير الثقافة والسياحة التركي نابي أوجي، زيارة إلى إسرائيل الأسبوع المقبل، حيث تسعى أنقرة إلى تطوير علاقاتها الاقتصادية مع تل أبيب ورفع معدلات التبادل التجاري بالإضافة إلى تحقيق مشروع نقل الغاز الذي تستخرجه إسرائيل من سواحل الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى أوروبا عبر الأراضي التركية.
إسماعيل جمال