«العبارة لأرسطو في شروح الفلاسفة المسلمين وتأويلات المعاصرين»، كتاب يوسف بن عدي، الباحث المغربي في الفلسفة، ينطلق من الحاجة إلى استعراض ومناقشة الشروح والتلخيصات والتفاسير لكتاب أرسطو «العبارة»، أو «باري أرمينياس» كما هو معروف أيضاً. والفكر العربي الفلسفي يعاني، بالفعل، من قلة الأبحاث المعاصرة التي تدرس شروحات الأورغانون الأرسطي في التراث الوسيطي واللاتيني والإغريقي؛ وهذه إشكالية تخصّ تلقي «العبارة» في الفكر والتاريخ، مما يسفر عن انتقال البحث من شرح القضايا والموضوعات، إلى مدار البحث عن أرسطو المتعدد: «أرسطو المعرّب»، «أرسطو العبري»، و«أرسطو اللاتيني». وبذلك فإنّ بن عدي يقترح إضافات هامة في ميدان الدراسات الأرسطية العربية، خاصة لجهة ارتباطها بالشروحات التراثية، ما اقترن بها من تصورات تاريخية وثقافية وأيديولوجية؛ طبقاً، أيضاً، لما يراه المؤلف من أنّ «كل شرح هو تأويل وفق أجهزة فكرية وقنوات نظرية يتسلح بها الشارح».
تتوزع موضوعات الكتاب على قسمين كبيرين، يتناول الأوّل كتاب «العبارة» في المشرق العربي الإسلامي، وفيه ثلاثة فصول تستعرض الكتاب ذاته أولاً، ثمّ تعرض مفهوم القضية بين تأويل الفارابي وابن سينا (القول في الكلمة والاسم، وأصناف القضايا والمتقابلات، ومفهوم الرابطة الوجودية في الموضوع والمحمول، والتصور والتصديق، والمعاني والمتقابلات)؛ وتنتقل إلى مبحث القضية أيضاً، عند الغزالي وابن تيمية (في الإمكان الكلي والإنكار المطلق، والقول في الحدّ والتصديق، ونقد مفهومي الحدّ والعلم). والمرء غير المختصّ يدهش لهذا الاهتمام بالفكر الأرسطي لدى قطبين متعارضين مثل ابن سينا وابن تيمية مثلاً، وكيف أنّ الموضوعة الفلسفية تكتسب أحياناً صفة «التسامي» على النزاعات الفقهية.
الفصل الثاني يذهب إلى الغرب العربي، ويبدأ من ابن حزم وابن باجة (حول المنطق وشرح المستغلق ومخالفة أرسطو، والاسم والكلمة والقول، ودلالة الممكن إلى شرائط السلب، وإحياء التقلــــيد المنطـــقي الأرســــطي، والانتقـــال من الأسماء والمعاني إلى الضرورة والممكن). كما يتناول فصل آخر المســتدرك في «العــــبارة» عند أبي الوليد ابن رشد الحفيد (أنماط الكتابة الرشدية من التلاخــــيص على الشروح الكبرى، ومن نقـــد الكلمة إلى نقــــد المحمـــولات المفردة والمركبة، ومبحث القضــية والقول الجازم، والانتقال من المتقابلات إلى النظر في القضايا، بالإضافة إلى التأويل الرشدي للقضية الوجودية والمطلقة). ولاستكمال المشهد، يعقد المؤلف فصلاً حول «العبارة» ما بعد الرشدية، وامتداداتها بين ابن ميمون وابن طملوس، والمختصرات المنطقية بين الماجري والأبهري. ويحسن بن عدي صنعاً حين يخصص الفصل الأخير لموضوعات أكثر عمومية، مثل حضور «العبارة» في النظرية المنطقية الأرسطية، والتأويل الأنطولوجي الذي صاغه الألماني مارتن هايدغر، وأشكال تلقي «باري أرمينياس» في التأليف الفلسفي المغربي.
وبمعنى عام، ينتمي بن عدي إلى تيار بحثي يتناول مسائل الفلسفة العربية الإسلامية من منطق تظهير جوانبها التنويرية والعقلية. والعمل بالتالي يندرج ضمن هذا المشروع الواسع، ويتكامل مع أعمال للمؤلف قرأت الإبداع الفلسفي العربي في أعمال طه عبد الرحمن، وطرحت أسئلة التنوير والعقلانية في الفكر العربي، وإشكاليات المنهج في الفكر الفلسفي العربي، ومساءلة النص الفلسفي المغربي، والفلسفة الشخصانية الواقعية عند محمد عزيز الحبابي. وهو يعتمد منهجية متكاملة تقوم على عرض المادة (الشروحات والتلاخيص والتآويل)، ثمّ تحليلها من زوايا نقدية ومقارنة، وتركيب وجهة نظر حول موقعها بالقياس إلى سواها عند شرّاح آخرين.
ومن الإنصاف الإشارة، هنا، إلى أنّ لغة بن عدي سليمة وسلسة، تتوخى الإيضاح دون إفراط في التبسيط؛ والعرض عنده متناسق ومترابط، حتى إذا كان خيار المؤلف المركزي، أي تقسيم الفصول إلى «مشرق» و«غرب» يثير بعض الالتباس حول احتمالات التأثير الجغرافي/ الثقافي في تأويل أرسطو. وقد كان حسناً أنّ المؤلف وضع، في خاتمة الدراسة، قاموساً وجيزاً بالمصطلحات، عربية وفرنسية ويونانية؛ كما استخدم عشرات المصادر الأصلية، من الفلسفة اليونانية والتراث العربي الإسلامي، والمؤلفات الحديثة والمعاصرة (نعثر على محمد عابد الجابري وعبد الرحمن بدوي وطه عبد الرحمن وعبد الله العروي، أسوة بأمثال روبير بلانشي ونيقولا ريشر ومصطفى الطباطبائي).
ويبقى أن جديد بن عدي، بالمقارنة مع أعمال عربية أخرى تناقش شخصية «أرسطو العربي»، إنما يكمن في جانبين: أنه يقيم موازنات بين مختلف الشروح والتأويلات، بعد عرضها وتبيان منهجياتها وقيمتها؛ وأنه يربط شروح الفلاسفة المسلمين بتأويلات المعاصرين، وإنْ في فصل واحد ختامي. ذلك لأنّ دافع المؤلف للنظر في «العبارة» يصدر عن ضرورة النظر في الشروحات من حيث هي تعبير فلسفي عن «الجدّة الفكرية»، و«الإشكالية» التي اتسم بها فلاسفة الإسلام؛ وكذلك الحرص على إيضاح مقدار التجاوز، في طرائق التوظيف التجزيئي لـ«العبارة»، خدمة لهذه القضية أو تلك، ودحض هذا التصور أو ذاك. ولأنه عرض أيضاً للتصورات والتأويلات الحديثة والمعاصرة، الأجنبية والعربية معاً؛ فقد استنتج، وأثبت في الواقع، أن «العبارة» ما زال محطّ تفكيرٍ وتأملٍ من قبل الفلاسفة والمفكرين، لا سيما وأنّ تحليل النصوص والخطابات والأقوال والأسماء، والأثر على وجه الإجمال، لا ينأى عن التأويل وبناء الدلالة.
وهذا، في خلاصة القول، عمل بالغ الفائدة في استظهار جدال فلسفي حيوي، لا يهدأ حتى يشتعل من جديد، حول موقع أرسطو في الثقافة العربية الكلاسيكية.
صبحي حديدي
رحم الله محمد عابد الجابري الفيلسوف المغربي والذي اعاد احياء ترث ابن رشد الذي كان اكبر فلاسفة القرون الوسطى واكثر من فسر فلسفة ارسطو. قيل ارسطو فسر الطبيعة وابن رشد فسر ارسطو
رحم الله محمد عابد الجابري