إن تكتب الآن على بعد ساعتين فقط بالسيارة من بيت ولدت فيه ومتّ عدة مرات بعيدا عنه فذلك مقترب آخر لا تكون فيه المسافة مكانية بقدر ما هي زمانية، وقد لا تتسع اللغة رغم ترامي أطرافها الإمبراطورية وغناها بالمجازات لصرخة تعلن العصيان على النحو وعلامات الإعراب باستثناء تلك الفتحة التي طالما اقترنت بالمفعول به وليس بالفاعل، والأذن المدربة على الإصغاء للصمت الثرثار هي وحدها التي تلتقط الآن، وفي هذا الغسق أنين أم تحولت إلى رميم، لكنها تجترح قيامتها وتسوس موتها كحصان عجوز لا يقوى على الصهيل، وتسيل دموعه كلما تذكر عرسا أو حربا أو سباقا، لكنه عندما جاع أكل ما تبقى من ذلك الإكليل الذي جفّ حول عنقه.
مُقتربي هنا وفي هذا الأوان الذي تحول فيه التاريخ كله إلى حفلة تنكرية ليس ضربا من الهندسة الفراغية أو التخييل، لأن عدد موتاي الذين أحصيتهم بعدد أسناني المتساقطة يقتلون مرة أخرى، وسلالتي من الكتب والدفاتر القديمة وأقلام الرصاص مدرجة على قائمة الإبادة بحيث لا يبقى منها غير ما يشبه برادة الحديد ونشارة الخشب، وما يتذرر من الممحاة التي حذفت نشيدا كان أشبه بجملة معترضة في كتاب الجغرافيا.
لم أذُق عسلها ولبنها وزيتونها وتينها، إلا من خلال ذاكرة باتت هي الأخرى عرضة للتجريف والاستيطان، لهذا عليّ أن اصدّق بأن الدبابة تصنع وطنا والجرافة تحذف بلادا، وأن استبدال اسم مدينة يترجم حتى أطلالها إلى العبرية، بل إلى اليديشية، وعليّ أيضا أن أصدق بأن لحفيف الزيتون رطانة لا صدى للأبجدية فيها.
ولو أسلمت نفسي لهذه التداعيات لتعمقت القطيعة بيني وبين المرسل إليه، لهذا لا بد من إيقاف عقارب الساعة قليلا، كي أتأقلم مع التوقيت العام ولا أفاجأ بساعي البريد يعيد إليّ رسائلي ـ أعني مقالاتي ـ وقد كتب على أغلفتها التي لم تفتح، Return to sender, no such address
* * *
لم يكن المثال الذي قدمه دويتشر موفقا بأي مقياس سياسي أو أخلاقي أو حتى وجودي، عندما قال إن الصراع بين المحتِل والمحتَل يتلخص في أن يهوديا قفز من شقته المحترقة في برلين إلى الشارع فسقط عليّ وكسر ذراعي وساقي وهشّم جمجمتي، لأنني لو صدّقت ذلك عليّ أن أصدق بأن المسؤول عن كل ما اقترفت الصهيونية هو الموسيقار فاجنر وليس هرتزل، لأنه عندما سمعه احتشدت في داخله تلك الانفعالات فأفرغها كالسم في خاصرتي.
* * *
ما الذي ينتابنا ونحن نرى من يموت نيابة عنا ويفتدينا، وكأنه يضيف ما تبقى من عمره إلى أعمارنا، إن ما ينتابنا هو قشعريرة تسري في الروح حتى النخاع، ونوشك أن نعتذر للشمس في شفق اليوم التالي لأن ضوءها لم يشمل هؤلاء الأجدر بها منّا، وحين قال محمود درويش لا أعتذر عما فعلت، أقام فاصلا بين الفعل والكلمة، لهذا لم يكن اعتذاره عما كتب. وكان أنسي الحاج قد سبقنا جميعا إلى ذلك التفريق حين قال ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة، فالفعل حكر على ما هو حي وعضوي، بعكس الصناعة التي هي من نصيب المعدن البارد. وذات مساء شحيح الرطوبة بعيدا عن البحر ومشبعا بالشجن، قال محمود: هل أعيش إلى الثمانين كي أقول سئمت تكاليفها، أو هل أردد ما قلته قبل عقود وهو: ثلاثون عاما ولا شيء مما أريد.. بحيث تصبح ثمانون عاما ولا شيء مما نريد!
ما يذكرنا بمن ذهبوا ليس فقط الإحساس بأن من تبقى على قيد الوعي لا الحياة أصبح وحيدا كالرمح المغروز في الرمل، أو كالسيف الذي أصبح أرملة لمحارب مضى، بل هي هذه الليلة الظلماء، حيث لا قمر ولا ظلال للمارة على أرصفة الليل، وحيث يعيد ذوونا الاكتشاف بأنهم وحيدون تحت عراء تاريخ غاشم .
ومن قال وهو راعف بالحياة كم كنت وحدك يا بن أمي يا بن أكثر من أب كم كنت وحدك، لعله يقول الآن وهو ساهر على سريره الصخري.. كم صرت وحدك، لكأن الوحدة كما الاغتراب قدر من أصروا على أن يكونوا أنفسهم ولا يقبلون هذه الترجمة التي تجاوزت النصوص إلى الذات والهوية والكينونة.
* * *
اخيرا صرخوا بعبرية غير مشوبة بزرنيخ الصهيونية ونفاياتها النووية: وداعا أرض العسل … نحن راحلون، إنهم شباب وصبايا من اليهود الذين اصطادهم الأسخريوطي الجديد بطُعم اكتشفوا أنه مقدود من لحمهم، فقد أدركوا قبل فوات الأوان بقليل الغواية، ليس فقط بفضل حجر بحجم قبضة طفل أو سكين غير مشحوذ، لأن وظيفته قشر التفاح والبصل، بل لأن من خدعهم بأرض الميعاد هيأ لهم جحيما مؤثثا بالدبابات والخوذ والجرافات وبقليل من الأناشيد الإسبارطية.
ولم يكونوا أول من أسقط القناع وكشف الخديعة فقد سبقهم شلومو رايخ وميشيل مزراحي وفاليتسيا لانغر وآخرون، لكن هؤلاء غادروا أرض العسل فرادى، بينما يغادرها من يرددون الأغنية موجات وجماعات. وسبق ليائيل ديان ابنة الجنرال، الروائية وعضو الكنيست أن حذّرتهم من عسكرة مقاعد التلاميذ في الروضة وأعشاش العصافير ونوافذ الكيبوتس بحيث تغدو الدولة مجرد ثكنة، والحياة فيها اصبعان واحد يشير إلى مصدر الخوف والآخر لا يغادر الزناد.
* * *
طوبى للغة عبقرية كهذه الأبجدية التي جعلت أرض العسل أرض لسع، إذ يكفي فقط أن يعاد ترتيب الحروف الثلاثة حتى يتحول العسل إلى لسع، فالنحلة تدافع عن زهر رضعت رحيقه .
وطوبى للغة جعلت من المُحتل محتلا، حيث كلمة محتل تشمل الفاعل والمفعول به، دلالة ذلك هي باختصار أن من يمارس الاحتلال يعاني وهو لا يدري من كونه مُحتلا، لهذا فهو يحمل بذور فنائه في جذوره إن كانت له جذور!
كاتب أردني
خيري منصور
تحية استاذي خيري منصور: ارض اللسع هي اقرب الوصف لوطن توئد به الاحلام وتقتل العصافير. لم يعد هناك سماء يتسع لتناقضات تجعل من الحقائق مجرد اوهام ويمارس الجلاد دور الضحية ويذرف دموع التماسيح. الانكى من كل ما يحدث أن أصحاب الحق أصبحوا عبئا على ابناء جلدتهم لتتسع دائرة القتل معنويا وماديا.
المحتل الذي يتقمص دور الضحية ربما يكون صادقا من النتائج التي يحصدها جراء افعاله، بحيث يصبح مهووسا ويشك حتى بمن يحمل ملامح شرقية.
الضحية المهددة بالاستلاب تجدد ذاتها وهويتها بما تخسره من دماء، لذا تجتهد مسيمات مختلفة عن تلك التسمية التي يتقمصها المُحتل. الاحتلال لا يحمل بذور فنائه فحسب بل يصنع الكراهية التي تغذي تلك البذور.