لطالما مثلت كركوك برميل البارود العراقي المنذر بالتفجر مع كل أزمة، فمنذ اسقاط نظام صدام حسين عام 2003 والحكومات المركزية في بغداد وحكومات إقليم كردستان في صراعات كثير منها خفي وبعضها معلن. ومثلت كركوك قطب الرحى في هذا النزاع لانها المدينة التي تنام على بحيرة البترول الشمالية للعراق، وبالتالي فأن السيطرة عليها تعني التنعم بهذه الثروة. لكن من جانب آخر تمثل كركوك عراقا مصغرا كما وصفها بعض المراقبين، حيث تتواجد فيها كل القوميات والأديان والمذاهب العراقية، وهي في حالة صراع مركب رحلت فيه المشاكل وتراكمت الأحقاد منذ الخمسينات مرورا بمحاولة التغيير الديموغرافي التي أراد نظام صدام ان يفرضه على المدينة، وصولا إلى التغيير الديموغرافي المعاكس الذي حاولت ان تنفذه حكومة إقليم كردستان، فهل سيتفجر برميل البارود هذا محرقا العراق وربما المنطقة برمتها؟ ام سيتوصل عقلاء أطراف النزاع لرفع فتيل الأزمة؟
نكأت عملية رفع علم كردستان على المباني الحكومية في محافظة كركوك جرحا متقيحا ومكتوما اسمه الفقرة 140 من الدستور العراقي، وفتحت جروحا قديمة متجددة في علاقة الإقليم بالمركز وبؤرة الصراع مدينة كركوك، التي يحب ان يصفها القادة الكرد بأنها «قدس كردستان» في دلالة على عدم وجود امكانية بأي شكل من الأشكال للتنازل عن ضمها إلى الإقليم، في المقابل رد مرة سياسي عراقي سني ممن يشعرون بالتهديد الكردي الساعي لضم كركوك إلى إقليم كردستان، على التوصيف الكردي قائلا «إذا كانت كركوك قدسكم فهي كعبتنا» في إشارة لترميز مضاد للصراع عبر استعارة المقدس والأكثر قدسية، لكن هذا التصعيد في المحصلة النهائية لن يخدم أي من طرفي النزاع، وإذا ما اشتعل الصراع فأن خطرا سيهدد ليس فقط بتفجر العراق وانما منطقة الشرق الأوسط.
الأسس القانونية التي يلجأ لها المتخاصمون حول محافظة كركوك هي المادة 140 من الدستور التي تمثل بدورها امتدادا للمادة 58 من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية التي دخلت إلى الدستور بصيغة تحمل السلطة التنفيذية انجاز حل أزمة كركوك عبر خطة متكونة من ثلاث خطوات هي التطبيع، ثم الاحصاء السكاني وتنتهي بإستفتاء في كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها لتحديد إرادة مواطنيها في أن تكون مدنهم جزءا من إقليم كردستان أو ان يتبعوا الحكومة المركزية في بغداد ، في مدة أقصاها الحادي والثلاثون من شهر تشرين الأول/اكتوبر2007.
وحصل الكثير من التلكؤ والمماطلة في الأمر فقد اعتبر العرب والتركمان عملية التطبيع من أصعب الخطوات إذا لم تكن مستحيلة التنفيذ، والمقصود بالتطبيع اعادة من استقدمهم النظام السابق من العرب إلى مدنهم وبالمقابل اعادة من هجرهم النظام من أكراد كركوك إلى مدينتهم ، وتكمن صعوبة تنفيذ التطبيع في ان هنالك مهاجرين يقيمون في المحافظة منذ أكثر من 20 عاما، ويحملون أوراقا رسمية تثبت تملكهم عقارات وأعمال في المحافظة، فكيف سيتم اخراجهم من مدينة هي جزء من العراق كما أن تحركهم في الفضاء العراقي حينها لم يكن ممنوعا ولم يكونوا جزءا من سياسات النظام السابق الساعية للتغير الديمغرافي. في المقابل يشعر العرب والتركمان في كركوك ان أي استفتاء سيكون محسوم النتيجة لصالح ضم المحافظة لإقليم كردستان نتيجة ما يصرحون به من اتهامات توجه للأحزاب الكردية وسياساتها في ما اسموه تكريد المدينة منذ 2003.
احصاء
ويرى العرب والتركمان والكلدو- آشوريون وجوب الاحتكام لأحصاء سكان العراق للعام 1957 باعتباره الأكثر مصداقية كونه سابق لعهد الحكومات التي تبنت أجندات تجاه القضية الكردية والصراعات الايديولوجية اللاحقة، ويطالب الكرد من جانبهم بل ويشددون في طلبهم القيام بأحصاء للسكان يشمل محافظة كركوك والمناطق المتنازع عليها بين الإقليم والمركز، وهذا الاحصاء سيقدم معلومات حقيقية على أرض الواقع، ومن ثم يمكن استفتاء آراء المواطنين حول رغباتهم في الانضمام إلى إقليم كردستان أو بقائهم تابعين للحكومة المركزية. ويشير عدد من المراقبين إلى ان نسبة الكرد من سكان كركوك هو 48٪ والعرب 28٪ والتركمان 21٪ والبقية للمسيحيين وبقية الاقليات، وفقا للتعداد السكاني لعام 1957، وهي نسب تغيرت بالتأكيد لاحقاً نتيجة للضغوطات القمعية والسياسية سواء قبل 2003 أو بعدها، لكنها تعطينا انطباعا حول نسب محتملة للسكان اليوم، والأهم هو اشارتهم إلى عدم تمثيل الكرد لأغلبية سكانية ملحوظة إذا ما تحالفت بقية المكونات ضد رغبة الكرد للانضمام إلى الإقليم.
ولتبيان الخطوات العملية التي اتخذت بشأن حل أزمة كركوك لابد من الاشارة إلى ان الدستور العراقي كان قد حدد تشرين الأول/ اكتوبر المقبل لحل أزمة المحافظة، واعتمادا على ذلك شكل رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي في فترة رئاسته الاولى ما عرف بلجنة المادة 140 برئاسة وزير العدل وعضوية وزير الداخلية ومن الوزراء والقياديين الأكراد والتركمان والعرب من مكونات المحافظة، وكان عمل اللجنة منصبا على حل أزمة «التطبيع» أو اعادة التركيبة الديموغرافية التي عمل النظام السابق على تغييرها، ورصدت الحكومة مبلغ 200 مليون دولار لهذه اللجنة لصرفها كتعويضات لمن يقرر الخروج من العرب الوافدين والعودة إلى مدنهم الأصلية، لكن المبالغ المخصصة ابتلعتها دوامة الفساد كما ان الحكومة لم تكن راغبة في حل الأزمة أو لم تكن تسعى بجدية في هذا الشأن لأنها كانت ضعيفة ومنقسمة فهي لم تستطع الوقوف بوجه الكرد بشكل حاسم ورافض لانهم كانوا يهددون بالانسحاب من العملية السياسية والنتيجة ستكون تدمير العملية السياسية برمتها لانها أصلا كانت تعاني من اعتلالات المقاطعة السنية، كما ان الاتفاقات بين الكرد وبعض مكونات البيت الشيعي بنيت على أساس خفي من التلميح ان للشيعة بحيرة البترول الجنوبية مقابل حق الكرد في بحيرة البترول الشمالية والنتيجة اخراج المناطق السنية التي ستعاني قحطا وفقرا من هذه المعادلة المجحفة.
افتعال أزمات جديدة
من جانب آخر، ومن خلال قراءة التصريحات التي تزامنت مع مشكلة رفع علم كردستان، نجد رفضا إقليميا من الحكومة الإيرانية جاء على لسان المتحدث باسم الخارجية بهرام قاسمي ومن جانبها انتقدت الحكومة التركية الاجراء ورأت في الأمر تهديدا واضحا لاستقرار المنطقة.
ويرى العديد من المراقبين ان طرح أزمة كركوك الآن متزامنا مع الاستفتاء الشعبي على استقلال إقليم كردستان قبل نهاية هذا العام لن يكون في مصلحة الكرد، لان الإقليم يعاني من صراعات حقيقية بين جناحيه وهي نزاعات حقيقية قد تقسم الإقليم إلى واحد في السليمانية وآخر في اربيل. اما فيما يخص المفاوضات التي خاضها الوفد المشترك من حزبي الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني في بغداد مع رئيس الوزراء حيدر العبادي حول الأزمة الاخيرة فقد أعلن بيان صحافي لرئاسة الحكومة العراقية انهما قد اتفقا على ازالة العوائق التي حالت دون تفعيل المادة 140 من الدستور العراقي، والتأكيد على أهمية التهيئة لمستلزمات الإحصاء السكاني بعد إكمال تحرير جميع الأراضي والقضاء على تنظيم «الدولة». من جانب آخر كانت تصريحات رئيس وزراء حكومة الإقليم نيجرفان بارزاني ملتبسة حيث حيث اعتبر رفع علم الإقليم إلى جانب العراقي في محافظة كركوك سيعمل على «تمتين روح حماية التعايش وتعزيز المشاركة أكثر بين المكونات كافة في إدارة المحافظة»!! وذكر بأن تضحيات البيشمركه هي التي حمت المدينة من السقوط بأيدي تنظيم «الدولة» الإرهابي عام 2014 عندما انسحب الجيش العراقي من كركوك لتأخذ مكانه قوات البيشمركه وتتصدى لهجوم العصابات الإرهابية، وتجدر الاشارة هنا إلى ان المناطق العربية من محافظة كركوك وهي قضاء الحويجة والمدن المحيطة به ما تزال تحت سيطرة تنظيم «الدولة» ولم يتم تحريرها حتى الآن.
وتجدر الاشارة إلى ان الإقليم يعاني من أزمة اقتصادية خانقة أوصلت ديونه الخارجية إلى أكثر من 20 مليار دولار، ويرى المختصون ان الخروج من هذه الأزمة يتم بالتقارب مع حكومة بغداد ومحاولة ايجاد حلول منطقية للأزمات وليس افتعال أزمات جديدة، لان مشكلة التنقيب عن البترول وعقد الاتفاقات مع الشركات يجب ان يتم من قبل الحكومة المركزية التي ستساهم عندئذ في حل مشاكل الإقليم الاقتصادية.
صادق الطائي