يدرك لبنانيون كثيرون أن ما يحظون به من سلامة نسبية في خضمّ الحروب الدائرة على أبوابهم أو غيرَ بعيد عن بلادهم له أثمانٌ وشروط. بين أثمانه (على ما في الأمر من مفارقة) أن يبقى هيكل الدولة المؤسّسي متهالكاً فتبقى السلطة التشريعية شبه عاطلة عن العمل وتبقى السلطة التنفيذية ندوةَ زجل: يتبادل أطراف الحكومة الهجاء ولكنهم يعاودون اللقاء عند الحاجة الماسّة. يلتزمون حصر أبحاثهم في أمور محدودة لا يغادرونها ويتركون أموراً أخرى قد تفوقها أهمّية ولكن الدخول فيها منبوذٌ سلفاً من جدول أعمال الحكومة: منبوذٌ تحت طائلة انفراط العقد الحكومي من الجولة الأولى أو قبلها.
وقد وصلت البلاد في سنتين أو ثلاث إلى استكمال هذا «الثمن» لسلامتها النسبية: بقيت سدّة الرئاسة خالية، وأصبح مجلس النواب ملزماً، ما خلا الحال التي تطلق عليها صفة «الضرورة»، بالامتناع عن الاجتماع ما لم يكن غرضه انتخاب رئيس للجمهورية… وهذا بعد أن انتُقِصت شرعية المجلس أو أُبطلت بالتمديد… وبات على مجلس الوزراء، بصفته البديل الاضطراري من رئيس الجمهورية، أن يتوخّى الإجماع في ما يتخذه من قرار ما دام يحلّ محلّ الرئيس المفقود «مجتمعاً» وليس بأكثرية أعضائه.
ولا مراءَ أن الضرورة، بما لها من أحكام، هي ما أملى على أهل الحكم هذا الذي أطلقوا عليه اسم «تشريع الضرورة» وأوجدت منافذ بقيت ضيقة من ضرورة الإجماع الحكومي أيضاً. ولكن وجود الضرورة وعدمه ومعهما إمكان اتّخاذ القرارات بالأكثرية الحكومية وعدمها بقيت كلّها مواضيع مفتوح فيها باب الاجتهاد على مصراعيه ومفتوح، قبل الاجتهاد وبعده، باب تعطيل المؤسسة من أصلها إذا بدا الاجتهاد موضعَ معاندةٍ جادّة تجعله غير مرجّح النفاذ.
بلادٌ هذه حالها يخوض جيشها ما يشبه الحرب على الحدود اللبنانية السورية وتضع أجهزتها الأمنية يدها على الخلية الإرهابية تلو الخلية. فلا يظهر اختلاف من هذه الجهة بين حال تضعضع السلطة الذي آلت إليه البلاد وحال الفاعلية العادية التي كانت في ما مضى حال مؤسسات السلطة السياسية. بل إنه قد يجوز اعتبار يومنا العسكري-الاستخباري أحسنَ من أمسنا، فيبدو كأن هذا الجانب شبه الحربي من حياة البلاد مجمَعٌ على بقائه سليماً نسبياً ومرعيّ من قوىً بعيدة غير منظورة… أو هي منظورةٌ، في الواقع، لمن شاء أن يمعن النظر.
تُواصل قطاعاتٌ أخرى ذات أهميّة، في البلاد، سيرتها المعتادة وكأنها غير محتاجة فعلاً إلى السلطة السياسية: القطاع المصرفي جمُّ النشاط يقوده مصرف لبنان ويقود به ومعه نموّ المديونية العامّة. ولم يُفْضِ إلى نقص ظاهر في نشاطه ما أملاه عليه القانون الأمريكي من مجابهة مع حزب الله ولا التفجير الذي تعرّض له أحد المصارف الكبيرة، قبل أسابيع، وبدا عقوبة على الاستجابة لهذا الإملاء. المطار والمرافئ على عهد مستخدميها بها وعلى سنّة ما هي معروفةٌ به من صفقاتٍ وعمولات… والاستيراد والتصدير يجدان سبلاً للإبقاء على وتائرهما المعهودة أو قريباً منها، إلخ.، إلخ. وهذا، بطبيعة الحال، فضلاً عن قطاعات ووجوه نشاط مختلفة: اقتصادية أو اجتماعية، إعلامية أو ثقافية، هي أصلاً أَوْهَنُ صلةً بأجهزة الدولة وسلطتها.
ليس كلّ شيء على ما يرام بطبيعة الحال. ثمّة خدماتٌ هي في عهدة الدولة أصلاً تهاوت أو ازدادت تهاوياً. أزمة النفايات أصبحت، من سنةٍ وبعض سنة، أبرزَ أنموذجٍ لهذا التهاوي. ولكن أزمة النفايات لا تحجب أزمة الطاقة ولا أزمة المياه ولا التخريب المتواصل للبيئة ولا ما يلي هذا وغيره من تردّ لشروط العيش في المدن خصوصاً. ولا يحجب هذا كلّه (بل هو يبرز) الاستشراءَ الفادح للفساد، في ظلّ تحلّل السلطات، ولا التضخّمَ المهولَ الذي ينهش ميزانيات العوائل…
يبقى، مهما يكن من شيءٍ، أن ثمّة ثمناً مضافاً تؤدّيه الدولة من تماسك مؤسساتها السياسية ومن سلطتها وقدرتها على الحكم، أي من سيادتها المثغورة أصلاً، في نهاية المطاف… تؤدّي هذا الثمن فداءً لتلك السلامة النسبية التي ما يزال ينعم بها اللبنانيون وهم أوّل المندهشين من استمرارها. لكن ثمّة حدوداً مرعية لهذا الثمن نفسه تأذن ببقاء ما هو باقٍ من سلطة الدولة وباستمرار ما هو مستمرّ في العمل من مرافق وقطاعات.
ما الذي ظلّ يجعل هذا الثمن مقبولاً، على وجه الإجمال، بحدوده، ويبقي السلامة المشار إليها متاحة، حتّى اليوم؟ يجب الالتفات، طلباً لجواب متماسك، إلى الوظيفة التي يضطلع بها لبنان، بسياسته واقتصاده وإعلامه، بتجهيزه العسكري والأمني وبمجتمعه «المدني» في الحروب الدائرة في محيطه وخصوصاً في الحرب السورية. والخدمات المشار إليها متنوّعة. فيها ما هو قتاليّ وهو يتمثّل في مشاركة حزب الله في الحرب السورية مشاركةً تستحدث في العلاقة بين السوريّين واللبنانيّين أزْمةً مذهبيّةً لم يكن لها وجودٌ من قبل، وهي باتت موعودة بمستقبلٍ مديد.
تلك مشاركة قدّمت لها قيادة الحزب مسوّغاتٍ كان كلّ منها يُظهر خواءَ سابقه. ولم يبق منها اليوم، بعد أن وصل مقاتلو الحزب إلى حلب وأريافها، سوى خدمة الطموح الإيراني إلى الهيمنة الإقليمية وهو المسوّغ الأصلي.
وتضع هذه المشاركة لبنان كلّه بما هو دولة في وضعٍ نادر المثال. وذاك أن طرفاَ طائفيّاً من أطراف الحكم في البلاد يمضي في حربٍ أخذت مدّتها تقاس بالسنوات بمعزلٍ عن الأطراف الأخرى، بل بخلاف الموقف السياسي الذي يعتمده في النزاع السوري، بعضٌ من أهمّها. وتتحمّل إيران الكلفة الماديّة المباشرة لهذه المشاركة. ولكن لبنان يتحمّل كلفتها البشرية، وهي الأفدح، ويتحمّل كلفاتٍ غير مباشرة لها: بينها جانبٌ معتبر من ثقل الكتلة اللاجئة التي تقع على الدور الحزب اللهي في القتال مسؤوليةٌ مباشرةً في تهجيرها من المناطق القريبة إلى الحدود بين الدولتين.
وفي الخدمات التي يتيحها لبنان المتهالك المؤسّسات ما هو استخباريّ يتجاوز حاجة البلاد نفسها في هذا المضمار.
إذ لبنان اليوم ساحة تجسّس للأطراف الضالعة في الحرب السورية من قريبٍ أو من بعيدٍ، بعضها على بعض. ويبدو التعاون جليّاً، على سبيل المثال، بين أجهزة الأمن اللبنانية وأجهزة دولٍ أخرى يهمّها التفادي من أحداث بعينها. فيجوز التخمين أن الأجهزة اللبنانية تدين لهذا التعاون وللمعونة الخارجية عموماً، على اختلاف أصنافها، بجانب من فاعليّتها المستمرّة على الرغم من تداعي القيادة السياسية…
من الخدمات المشار إليها أيضاً ما هو ماليّ تبقى له، مشروعاً كان أم غير مشروع، منافذُ في النظام المصرفي اللبناني على الرغم من أي تشدّد في المراقبة… وهذا على نحوِ ما يستمرّ، أيّةً تكُنْ شدّةُ القمع، غسلُ الأموال والهربُ من الضرائب، مثلاً، في سائر أقطار العالم.
ومن الخدمات ما هو إعلاميّ… إذ لا تخفي الأزمة التي تضرب الصحافة الورقية وبعضاً من قنوات التلفزة الفضائية وجود جمهرة كثيفةٍ من ذوي الخبرة الإعلامية أو الصحافية ينفع استقطابهم، مع بقائهم في قواعدهم البيروتية، مؤسّساتٍ إعلاميّةً وصحافيّةً مختلفة يتّخذ بعضها لبنان مركزاً له ويقيم بعضها في أقطارٍ أخرى. وقد انضمّ إلى اللبنانيين من بين هؤلاء آخرون هجّرتهم الحرب من سوريّا أو من العراق…
تلك كلّها كُلفاتٌ يؤدّيها اللبنانيون، مجتمعاً ودولة، ثمناً لحفظ سلامتهم الشبحية. على أن مسألة اللجوء السوري، وقد أصبحت متقدّمة بين كبريات المسائل المطروحة على البلاد، توجب علينا وقفة خاصة بها… فنكرّس لها عجالتنا المقبلة.
٭ كاتب لبناني
أحمد بيضون
ليس لبنان وحدة فمعة الاردن وتركييا والعراق لكن اشدهم العراق ولبنان