الصورة المثالية للأم المضحية تكاد تكون هي المعادل المشترك في كل الأفلام المصرية منذ بدايتها وحتى الآن، ليس من قبيل تبجيل الأم وتقديسها ولكن لثبات الصورة النمطية في الأذهان والعجز عن إحداث تحولات في الشكل والمضمون، فضلاً عن الميل للتراجيديا الفجة في معظم الأحيان وهو النمط الذي كان سائداً لفترة طويلة ولم تتخلص منه السينما المصرية إلى الآن، وتعد الفنانة القديرة أمينة رزق أشهر نموذج للتضحية والمثالية، وهناك أفلام بعينها تعتبر علامات في هذا الإطار من أبرزها بالطبع فيلم بائعة الخبز الذي قدم نموذج شديد المأسوية لقضية الظلم الاجتماعي الذي واجهته البطلة فأدى بها إلى دفع ضريبة مضاعفه جراء تمسكها بالقيم والأخلاق، وقد نجح هذا الفيلم الذي تقاسم فيه البطولة مجموعة من كبار الفنانين، زكي رستم وحسين رياض وشادية وشكري سرحان.
وإزاء هذا النجاح تكررت التيمة نفسها بتنويعات مختلفة في أعمال وتراجيديات أخرى خلقت صورة ذهنية لدى الجمهور لم تشِ ملامحها بغير الاضطهاد والظلم، وقياساً على هذا النوع جاء الدور التاريخي للفنانة شادية في فيلم المرأة المجهولة مع كمال الشناوي ليتم الغزل على ذات المنوال فتصبح المصداقية أقوى لدى المتلقي الذي تعود على الشكل الثابت والمضمون النمطي في عشرات الأفلام التي تغبن المرأة وتتعامل معها بوصفها كائناً تأثيرياً يستخدم لذرف الدموع والبكاء، وثمة فارق شاسع بين الواقعية الاجتماعية والقسوة المفرطة في تصوير الواقع، فالواقعية تعتمد على الرصد الدقيق للممارسات الاجتماعية في سياقها الموضوعي مع الأخذ في الاعتبار التوازن بين السلبي والإيجابي فيما يتعلق بالقضية المطروحة، وهو ما تحقق على سبيل المثال في فيلم بداية ونهاية المأخوذ عن قصة نجيب محفوظ، حيث راعى المخرج صلاح أبو سيف جوانب الرواية كافة وقدم الصورة الأصدق لكفاح المرأة المصرية الأصيلة بما يضيف لرصيدها الإنساني ويدعو لاحترام مسيرتها.
في فيلم «اليتيمتان» قدم المخرج حسن الإمام المرأة المجرمة في دور تاريخي من حيث براعة الأداء للفنانة نجمة إبراهيم، تلك التي قامت باختطاف البطلة فاتن حمامة وإجبارها على التسول، ولم يشأ المخرج الكبير أن يشير مجرد إشارة لكونها أماً أيضاً لفاخر فاخر، الابن الأعرج الذي كان شديد التعاطف مع نعمة أو فاتن حمامة، ما حدث كان تركيزاً ميلودرامياً فجاً على مأساة البطلة ولكي يزيد المخرج من جرعات البؤس أغفل مشاعر الأم تماماً وغيبها فلم نر نجمه إبراهيم غير شيطانة حتى مع ابنها وهو عوار واضح في السيناريو والإخراج يتنافى مع الفطرة الطبيعية لمشاعر الأم مهما كانت قسوتها مع الآخرين !
لم تتغير أيضاً صورة الأم في ثلاثية نجيب محفوظ التي احتفت بها السينما فحولتها إلى ثلاثة أفلام أخرجها حسن الإمام نفسه وبذات الطريقة الأحادية، فقد قدم أمينة بطبيعتها الساذجة وطاعتها المتناهية وانقيادها للسيد أحمد عبد الجواد دون محاولة للخروج قيد أنملة عن مواصفاتها في الرواية فبقيت كما هي نمطاً ثابتاً يعكس جانباً سلبياً من شخصية المرأة المصرية التقليدية مسلوبة الإرادة، ومضت مسيرة السينما على الدرب نفسه في كثير من الأفلام فرأينا نماذج كثيرة متكررة لأدوار الأم متمثلة في الفنانة القديرة فردوس محمد التي قدمت الصورة المثالية فحسب في إعادة لفكرة التنميط، فبرغم الأداء المقنع لهذه الممثلة القديرة إلا أن التشابه في الأدوار ظلمها كثيراً. وكذلك جاءت أدوار كريمة مختار متوافقة مع الحالة الراهنة والصورة الاعتيادية لشكل الأم المصرية على الشاشتين، الكبيرة والصغيرة فلم تحدث النقلة النوعية المرجوة حتى في أكثر أدوارها شعبية وجماهيرية مثل دورها في الافلام «وبالوالدين إحسانا» و»الحفيد» و»يا رب ولد»، وإن كان هناك دورها المختلف نسبياً في فيلم الليلة الموعودة، وهنا لا يقع اللوم على الممثلة وإنما المسؤولية الأساسية تكون على كتاب السيناريو والمخرجين لأنهم المعنيون بصياغة الأعمال والأدوار والممثل ما هو إلا أداة تنفيذ ووسيط موصل للمشاعر والأحاسيس. فاتن حمامة ربما تكون هي الاستثناء الوحيد بين هذه المتشابهات الكثيرة كونها قدمت دور الأم بطريقة عصرية جديدة في فيلم إمبراطورية ميم ولم تلتزم بالشكل المعهود فقد أدت دور الأم المثقفة الواعية بمشاكل أبنائها في مراحلهم العمرية المختلفة وسلطت الضوء على أبعاد مهمة في العلاقة بين الأم والأبناء وبلورت معنى التضحية بهدوء دون نحيب وبكاء.
يبقى نموذج آخر كتبة أسامة أنور عكاشة للتلفزيون وأخرجه المخرج إسماعيل عبد الحافظ وهو المسلسل الشهير «الشهد والدموع»، وفي اعتقادي أنه العمل الدرامي الأكثر تميزاً الذي عزز صورة الأم المصرية بشكل مقنع للغاية على مستويات متعددة، أولاً من حيث التنوع في الشكل والطبيعة الإنسانية بين بطلتين كلاهما جسدت شخصية الأم بأسلوب متناهي الاختلاف، فقد أبدعت عفاف شعيب في دورها الإيجابي وقدمت الصورة المثلى بغير تزيد ولا مبالغة فكانت على مستوى الحدث والموضوع والحالة الاجتماعية والفنية بكل أبعادها، وكذلك قامت نوال أبو الفتوح بتقديم الصورة المناقضة للفكرة المثالية وتماهت في الشخصية إلى حد التوحد معها فرأينا بوضوح عيوب المرأة وتسلطها وجبروتها ولمسنا الخيط الرفيع في العلاقة المضطربة بينها وبين أبنائها وهو ما أعطى للأحداث عمقاً وصدقاً وواقعية وغاير الشكل الثابت والطبيعة الأنثوية التي تتحرك طوال الوقت بين محورين اثنين، المثالية والإنسانية كأن الاقتراب من العيوب محض جريمة!
كاتب مصري
كمال القاضي