من أخلاق المهنة أن يكون النّقد لأي نص أدبي قائما على المعطيات الأدبية فقط، حتى إن كان الاختلاف بين الناقد والكاتب واضحا، فهذا لا يعني أن الناقد عدو للكاتب ويريد تدميره.
هذا العداء ولد تحديدا بين لجان لجوائز معينة، مثل البوكر التي أفرزت كتابا حاقدين على أولئك الذين قيموهم وأبعدوهم عن فرص نيل جوائز.
أكثر من ذلك اليوم نقرأ مقالات تشبه جبهات لإطلاق النار بين نقاد ومؤلفي روايات وشعراء. مع أن النقد في النهاية ليس اعتداء على الكاتب. والكاتب ليس بمقام القديس نكن له الولاء لأسباب خارج نصه. صحيح أننا مجتمعات تخلط بين علاقاتها الشخصية والعملية، لكن أيضا رموزها ينزلقون أحيانا في مواجهات عديمة الفائدة مع أشخاص لا علاقة لهم بالنقد ولا بأخلاقيات التعاطي كقراء محترمين مع النص الأدبي.
في الغرب مثلا وتحديدا في أمريكا انتشرت ظاهرة « البوكتوب» التي سمحت لكل من يقرأ كتابا أن يقول رأيه بالصوت والصورة عبر جهاز «الآيفون» ويتشارك مع شريحة كبيرة من القراء رأيه ..وهات يا تعليقات تصل أحيانا قمّة التجريح والسخرية بالكاتب. هذه الظاهرة التي أزعجت كثيرين من الكتاب لم تزعج أبدا تجار الكتاب الورقي، لأن هذه الظاهرة أعادت للكتاب مكانته تقريبا… حتى أن البعض وجد في طريقة «البوكتوب» وسيلة للعيش، وهو ما لم يصلنا، وإن كان قريبا جدا سيصل، وربما لست على دراية جيدة ببرامج كهذه على اليوتوب، لهذا لست على علم تماما إن كان بعضهم قد فتح قنوات لانتقاد الكتب ومؤلفيها.
المأساة الحقيقية في هذه الظاهرة، أن أغلب من يبث انتقاداته ينتمي لجيل مراهق. ويبدو جليا أن الجيل الناضج لم يدخل هذه الدوّامة العنكبوتية، لجهله بتقنياتها أولا وثانيا لأن للعمر أحكامه، فليس من اللائق أن يشتم كاتب وتمسح به الأرض بهذه الطريقة المراهقاتية على الإنترنت.
هذه المجموعة الجديدة من قراء «البوكتوب» تملك فئة شاسعة من المتابعين، لكنها لا تعوّض أبدا النقد العميق الذي يقدم الأدب كأدب، وليس كمادة للتأثير على الآخر.
نعم إنهم يؤثرون بسرعة وينتشرون بشكل لافت، بحيث يغطون في وقت قصير دائرة لغوية كبيرة. لكنهم لا يحللون، لا يتوقفون عند أبعاد أي عمل أدبي.. ويبدو الكتاب بالنسبة لهم مادّة عمل لإرضاء أكبر فئة من المتابعين. لهذا تتنوع الكتب بين القصص والكتب العلمية، وكتب التاريخ والفلسفة وكتب أخرى للتسلية وغيرها.
إلى هنا يبدو الأمر غير مهم كثيرا، لكن إن عرفنا أن داري «بينغوين» و»بلينك بابليشنغ» بدأتا تتعاملان مع «بوكتوب» وهذا يعني أن كل ما يبدأ مزحة يتحوّل بالاستمرارية إلى عمل جاد.
قريبا ستدخل دور النشر في تعاون مع هؤلاء من أجل الماركتينغ، وأعتقد أن تأثيرهم سيكون قويا على متابعينهم. أما السؤال الجاد الذي يجب أن نطرحه الآن فهو إلى أي مدى يمكن لدور نشر أن تستفيد من نقاد ذوي مستوى عال؟ هل ستتعامل مع أشخاص يقدمون نقدا بناء وموضوعيا؟ أم أن الأمر سيتوقف عند مرحلة مدى تأثير هؤلاء على أكبر فئة من متابعينهم لتسويق الكتاب؟ وإن كان يهمنا أن ينتشر الكتاب، فأي نوع من الكتب ستكون مادة محببة للمسيطرين على «البوكتوب»؟
في رقعتنا العربية تراجعت تجارة الكتب بسبب الحروب والأحوال الاقتصادية المتردية للناس إلى مستويات بائسة، ولكن بانتعاش استعمال مواقع التواصل الاجتماعي، تحلحلت الأمور، خاصة في بعض بلدان الخليج، بحيث أصبح الكتاب يقتنى عبر مواقع لبيع الكتاب الورقي. وبالطبع نشكر الجميع على مجهوداتهم مع التحفظ… إذ لا يمكننا أن نسمي هؤلاء الذي يثرثرون عن الأدب وكأنّه منتج للاستهلاك السريع سوى بـ» صبيان النقد» إن كانوا يعتبرون أنفسهم نقادا، لأن بعضهم يتطاول بشكل عنيف وساخر على أعمال عظيمة وأسماء عملاقة مثل أعمال شكسبير مثلا، أو فيكتور هوغو وغيرهما.
ولدينا نماذج منهم ينسفون تجربة المنفلوطي كاملة فيعتبرونه كاتبا للأطفال ونجيب محفوظ للمراهقين، وتصنيفات كهذه تحاول التقليل من مقامهم الأدبي، متناسين تماما أن هؤلاء كتاب مرحلة… فلكل عصر كُتّابه ولغته وأساليبه السردية وقضاياه المهيمنة.
هؤلاء يسيئون للجميع لأنهم يعبرون عن ذائقتهم الخاصة، وليس عن وجهة نظرهم النّقدية. وهذا ما نجده في بطاقات القراءة التي يقدمها شابان فرنسيان قلبا المشهد الثقافي الفرنسي رأسا على عقب، حين استخفا بكتاب في القبور، وآخرون يعتقدون الآن أنهم واجهة للمشهد الروائي في باريس. نسمع ونرى مباشرة من يقول «أكره مارك ليفي» أو» تبًّا لك ميشال هولبيك»… لنختصر الأمر ونقول إن هذه القراءات تقدم بلغة الشارع وكفى. لكن هل يجوز أن نشتم هولبيك حتى إن لم نتفق مع الفوبيا التي يعاني منها من الإسلام مثلا؟
لقد آمنت دوما بأن الكلمة الطيبة تصل بشكل أسرع للقلب، وتحدث تأثيراتها بشكل صحيح. إذن ماذا سنجني من شتم كاتب لا يناسبنا خط أفكاره وتوجهاته السياسية والدينية؟ لا نتائج جيدة لنا، لا على الصعيد الرّبحي ولا على صعد أخرى…
ربما وهذا أكيد، قد يفجّر هذا العنف اللفظي مزيدا من العنف… مزيدا من الألفاظ الجارحة، تطاولات، ثم سنتفاجأ بانهيار منظومتنا الأخلاقية كلها.
لنبقى هنا ولا نبتعد في استخلاص النتائج السيئة لظاهرة لم تحل على عالمنا العربي بعد، فنحن لا نزال في مرحلة انتقاد الذات، تحديدا تلك الذات العربية التي نفخت ريشها لعقود من الزمن، ثم اكتشفت مع أول قطرة غيث أن الرّيش المنفوش لا يغطي سوى هيكل عظمي يثير الشفقة.
الآن ونحن على هذه الحال المثيرة للشفقة هل سنتبنى هذا المشروع « الاستخفافي» بالكتاب والشعراء والفنانين؟ علينا أن نعرف أن الذين ينتقدون الآخر بدون أدنى ذرة احترام يتعاملون معه كما يتعاملون مع كتاب مغلق، لا يعرفون منه سوى الغلاف، وربما الملخص الذي يحمله الغلاف الأخير. النّقد اللاذع مبني على جهل كامل للجزء الحساس في شخصية الآخر.
نحن لا ننتقد من نعتقد أنهم يستحقون ذلك، بل أولئك الذين نمقتهم لأسباب شخصية، قد تكون مبنية على ردة فعل لسلوك رخيص قام به المعني تجاهنا. الأفضل إذن وفي حالات كهذه أن نصنع جدارا بيننا وبين من نكره. غير مقبول أبدا أن يقول ناقد «أكره فلان». تلك الكراهية والضغائن عليها أن تبقى في العلبة المغلقة للعلاقات الشخصية. أما ما هو فنّي وجميل، فإن الكراهية لا تليق به. نحن هنا أمام نوع من النّقد الذي أطلقت عليه نقدا صبيانيا، أو مراهقاتيا، أو نقد فيسبوك وتويتر…لا يحتاج لكثير من التمحيص، والتركيز والتحليل، إذ يمكن لصاحبه أن يكتب جملة في سطرين ينتقد فيهما من يريد ويتركه في حالة هيستيريا تفوق التوقعات!
عذرا أليس هذا ما نعيشه اليوم؟
لهذا وقبل أن نبلغ سن النضج النّقدي علينا أن نتريّث قليلا وننظف قاموسنا اللغوي من مصطلحات الكراهية والأحقاد ثم نمضي في مشروعنا حتى النّهاية.
شاعرة وإعلامية بحرينية
بروين حبيب
نص يعالج موضوعا يقلق الكتاب والنقاد على حد سواء
أضيف إلى كل ماذكرت سيدة بروين نقد الشخص أو التهجم عليه أوالطعن في أصله وفصله وهلم جرا
النقد يجب أن يكون نزيها ويخدم الأدب حتى لولم يكن يخدم الكاتب…
تحياتي سيدة بروين
فاطمة الزهراءبولعراس