علاقة الأغنية بأنظمة الحكم والحاكم علاقة ذات شجون، فقد رفعت أناسا إلى حيث المكانة والجاه وخسفت الأرض إلى أسفل سافلين بآخرين، وكم من أغنية منحت أصحابها الألقاب والهدايا والعطايا، وكم من أغنية أودعت أصحابها الزنازين والقبور.
هذا الجدل والحراك بين الزعيم والمغني توقف عنده عدد من الباحثين، لكن لم يخصص له أحد دراسة مستقلة علمية تتبع العلاقة الجدلية القائمة بين الاثنين.
وربما تمكنا في تناولنا السريع للموضوع أن نؤشر إلى بعض الزوايا في علاقة الأغنية بالنظام وبالحاكم، ويمكن أن نبدأ تتبعنا من مطلع القرن الماضي، مع تداول وانتشار وسائل إيصال الأغنية لقطاع واسع من المستمعين عبر التقنيات الحديثة للتسجيل، بدءا بالاسطوانات ومرورا بالسينما والمسرح ثم الإذاعة وبعدها التلفزيون، فالعلاقة بين الاثنين – الأغنية والنظام – كانت محدودة حتى أربعينيات القرن العشرين، وربما كانت هنالك بعض الحالات التي حصلت أبان فترات الاحتلال الأجنبي والحكومات الملكية في العالم العربي، فعلى سبيل المثال لا الحصر ما تعرض له الشاعر الغنائي بيرم التونسي من نفي إلى فرنسا بسبب قصائده السياسية بحجة أنه من رعايا الدولة الفرنسية المحتلة لتونس، وأيضا تعرض عزيز على المونولوجست العراقي للمضايقات والتحقيق والتوقيف بسبب ما كان يقدمه من غناء ذي طابع نقدي للاوضاع السياسية في الاربعينيات.
اما الانقلاب الحقيقي فقد ابتدأ مع وصول الحكومات (الوطنية) التي تلت انقلابات العسكر في دول المنطقة وما تبعه من تغيرات في أنظمة الحكم، حيث التفت حولها الجماهير وغيرت صفتها من انقلابات عسكرية إلى حكومات جماهيرية ذات سمات شعبوية، عند هذه النقطة تحفزت دوائر رقابة المصنفات الفنية لتبتر كل ما له علاقة بالعهد القديم الموصوم بالعمالة، فطالت يد المنع في مصر مثلا رموزا فنية كبيرة مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهما من فناني الصف الأول، حيث كانوا معروفين بعلاقاتهم الوطيدة مع الأمراء والقصر والطبقة الارستقراطية قبل الثورة، وحاولت الرقابة منع أغنياتهم، حيث نجد سنة 1952- والنصف الاول من عام 1953، هي الفترة الاقل انتاجا بالنسبة للعديد منهم، وقد تزامن الامر مع بروز شباب اعتبروا جيل الثورة من الفنانين، ربما كان ابرزهم عبد الحليم حافظ، لكن الامر لم يدم طويلا حيث حسن الفنانون المغضوب عليهم مواقفهم عبر الغناء للنظام الجديد ورمزه الزعيم عبد الناصر، وتماهوا مع الموجة الفنية التي ترعاها الدولة حينئذ، ورغم الموقف الجديد فقد منعت كل الاغاني التي يرد فيها ذكر أو اشارة للعهد السابق كذكر اسم الملك أو العائلة الحاكمة. كذلك الحال في عدد من الدول العربية التي شهدت انقلابات وتغيرات، فمع كل تغيير يشهده البلد، فإن اجتثاث ما له علاقة بالعهد السابق هو المسار الوحيد الذي تسير عليه الانظمة المتعاقبة. كما أن الاغاني استعملت كرموز وشيفرات واسلحة في الصراعات السياسية، ما أدى إلى منعها في بعض الدول، فقد كانت هيئة الاذاعة البريطانية تذيع بالحاح إبان ازمة قناة السويس نكاية بالرئيس عبدالناصر أغنية «البوسطجية اشتكوا» لرجاء عبده و»شي يابتاع البوسطة» لإسماعيل ياسين، لتغمز الرئيس من قناة أن والده كان موظفا بسيطا في مصلحة البريد. أما الإذاعة العراقية الموجهة ضد سوريا إبان تأزم العلاقة بين النظامين نهاية السبعينيات، فقد كانت اللازمة الاذاعية فيها هي أغنية فيروز (تك تك يا أم سليمان.. تك تك زوجك وين كان) لتغمز الرئيس حافظ الاسد الذي يكنى بأبي سليمان. أما اغنيتا الملحن حلمي بكر اللتان منعتا في مصر فكانت الاولى (بياع كلام ) التي غنتها صباح، بعد أن وجدت وزارة الاعلام المصرية أن النظام العراقي بعد تأزم العلاقة مع مصر بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، يقوم بإذاعتها بعد خطب السادات بصفته غير صادق في كلامه، أما الأغنية الثانية فكانت أغنية ليلى مراد «ليه خليتني أحبك» التي تم منع إذاعتها لأنها تحتوي على عبارتي «روح منك لله» و»ليه تهرب من ذنبك»، واعتبر القائمون على الإذاعة أن فيهما مساسا بالذات الالهية إبان حكم الرئيس المؤمن انور السادات!
وفي هذا السياق يذكر الكاتب الصحافي محمد العسيري في كتابه «الأغاني الممنوعة للأبنودي» حادثة منع أو عرقلة تسجيل أغنية «المسيح» التي كتب كلماتها عبد الرحمن الابنودي ولحنها بليغ حمدي ليغنيها عبد الحليم حافظ – وهي أغنية وطنية اشتهرت بعد ذلك – حيث تفاجأ الثلاثي (الأبنودي وبليغ وحليم ) بتخوف المسوؤلين من رد فعل مشيخة الأزهر، بسبب ورود كلمات في الأغنية قد تمس بالمفاهيم الإسلامية، فما كان من عبد الحليم إلا أن ركب سيارته وذهب إلى المشيخة طالبًا موافقة مكتوبة ومختومة على الأغنية.. لكنه فوجئ برفضهم لماذا؟ لأن النصّ يشير إلى (صلب المسيح)، وكان الأبنودي ينتظر النتيجة في الاستوديو، وعندما أخبره عبد الحليم بأن مشيخة الأزهر اعترضت.. غيّر الكلمات من «صلبوا المسيح» إلى «خانوا المسيح» فوافق الشيوخ بشرط (ألا يغني عبدالحليم الأغنية في مصر) وظلَّت أغنية «المسيح» ممنوعة لسنوات في القاهرة، وإن سمعها جميع العرب من إذاعة (بي.بي.سي).
وربما كان الرقيب في بعض الأحيان ملكيا أكثر من الملك، ما تسبب في مواقف أقل ما توصف به أنها مضحكة مبكية، وهذا ما حدث مع أغنية الفرانكو أراب «يا مصطفى يا مصطفى» للمطرب بوب عزام التي منعتها الرقابة لمدة وجيزة بحجة أن ( أنا بحبك يا مصطفى ) المقصود به الزعيم مصطفى النحاس، وأن «سبع سنين في العطارين» المقصود بها سبع سنوات مرت على إسقاط الملكية وقيام الجمهورية، عام 1959 سنة إنتاج الأغنية. المفارقة أن اثنين من قامات الثقافة العربية كانوا على رأس المؤسسة الثقافية، فمدير الرقابة كان الكاتب نجيب محفوظ ووزير الثقافة كان الكاتب ثروت عكاشة. أما المفارقات العراقية فربما كانت أكثر كارثية عندما منعت الرقابة اذاعة أغنية (ياصبحة هاتِ الصينية) للمطرب موفق بهجت لان (صبحة) هو اسم والدة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، ومن ثم تم وضع المطرب على القائمة السوداء ومنع بث أغانيه في العراق.
كما أن ارتباط المطرب أو الملحن بدولة ما أو بنظام ما بسبب أغنية أو تصريح قد تسبب له الكثير من المشاكل والمنع في دول أخرى، وهذا ما حصل لعدد كبير من المطربين في العالم العربي، فقد تعرضت المطربة صباح للإبعاد من مصر في عهد عبد الناصر، وقيل إن الاسباب كانت سياسية لانها لم تغن (بشكل كاف) مثل زملائها في حفلات ذكرى الثورة، وبعد ذلك تخلصت الفنانة من هذا المأزق عندما سعت جيهان السادات في عهد الرئيس المصري انور السادات لمنحها الجنسية المصرية، لكنها تعرضت بعد ذلك للوضع على القائمة السوداء في اغلب الدول العربية نتيجة غنائها مع المطرب الفرنسي اليهودي ذي الاصل الجزائري (انريكو ماسياس)، بتهمة التطبيع مع الكيان الصهيوني، في فترة كان عدد من الانظمة العربية يوقع معاهدات سلام مع العدو الاسرائيلي! كذلك قرارات وزير الاعلام السوري الاسبق محمد عثمان (التأديبية) التي اتخذها بحق عدد من المطربين السوريين واللبنانيين، ومنهم المطرب اللبناني طوني حنا الذي منعت أغانيه في سوريا بعدما أشيع عن قيامه بتمزيق العلم السوري في كندا (حيث كان يقيم) خلال تظاهرة قام بها بعض اللبنانيين الرافضين للوجود السوري في لبنان آنذاك! إضافة إلى منع تداول أغنيات عدد من الفنانين في الكويت أمثال كاظم الساهر ونوال الزغبي، الأول بسبب التزامه قضايا بلده العراق دوماً، والثانية بسبب ما أشيع حول غنائها في حفل خاص بابن الرئيس الاسبق صدام حسين في حقبة التسعينيات.
وبالطبع لم نأت على ذكر الأغنية السياسية المعارضة معارضة صريحة للانظمة الحاكمة، فهذه تحتاج إلى دراسة مستقلة، وابرز رموزها كانوا من فناني اليسار، الذين حرموا من دخول اذاعات بلدانهم بسبب موقف النظام من اليسار في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وفي هذا النمط من الغناء يمكن أن نشير إلى أغاني الشيخ إمام وأحمد وفؤاد نجم، وأغاني المطرب فؤاد سالم والعديد من ملحني ومطربي اليسار في العراق، ومع شيوع التقنيات الحديثة اصبحت الأغنيات التي تقض مضجع الزعيم تجد لها مسارات جديدة تصل فيها للمتلقي، لكن تبقى الاذاعات والتلفزيونات الرسمية تتعامل معها بالقمع وبالصيغ البوليسية القديمة طالما بقي سقف حرية التعبير مفصلا على مقاس الزعيم.
* كاتب عراقي
صادق الطائي
مقال أكثر من رائع
أحمد حمدي
اللة بالخير ،أخي صادق،طريف ومثير إضاءة ،جدلية الأغنية والزعيم في سيرك العالم العربي !
و تنافس إدارات الرقابة ،على قوائم سوداء للمنع والقمع والملاحقة ،لأغنية،كتاب،رأي،موقف !
آمل أن تستكمل ما بدأت بالأغنية السياسية ،ودورها إيجابآ وسلبآ في حروبنا الوطنية والأهلية !.