منذ بداية مشواري النقدي للأغنية الشرقية والعراقية بالخصوص لم أعهد نفسي إلا وأنا أقتفي أثر الغرابة في التأليف الغنائي والبحث عن أسباب الأصالة وكيفية إنشاء المعمار الموسيقي للأغنية. فانا لا أنكر ان في الزمن الحديث هناك أغان لها وقعها الخاص على المختص بالنغم، لكني لا أتناول إلا الأغاني التي يكون وقعها على الطرفين ( المتلقي والمختص) لأني أرى أن ركن التوصيل يجب ان يبلغ الهدف من الجميع، ومن رأيي هذا، لا أريد أن أصرِّح بان الأعمال الفنية التي لا يكون لها ما أسلفت ليست على فن أو إبداع.
فمن أرشيف الأغاني العراقية التي جمعت بين الجمال الفني وسلاسة التعبير أغنية «يا طيور الطايرة» التي غناها المطرب الكبير سعدون جابر وسجَّلها للمشاهد العراقي (التلفزيون) سنة 1973 وهي من كلمات الشاعر المبدع زهير الدجيلي وتنغيم (ألحان) الفنان الرائع كوكب حمزة.
وقد حاول الكثير من المطربين إعادة غنائها برخصة أو بدون رخصة لما تحمله هذه الأغنية من محاكاة للواقع الشرقي في جمال التعبير الوجداني المتمثل في معاني الكلمات ومنبع تراثها الشعبي وأسلوب تنغيمها الرائع، ولكثرة ما تعانيه هذه الشعوب من لوعة الإغتراب والحنين إلى الوطن والأهل والأقارب والأصدقاء فقد مثل عنوان الأغنية «يا طيور الطايرة» وسيلة المناجاة مع الطير لما يحمل من رمزية الحرية والسلام ولأنه في الوقت نفسه يحمل معاني التنقل والهجرة، فمنهم من جارى الأداء بنسبة لا بأس بها لكنه لم يحصل على استحسان الجمهور ومنهم من حاول تحسينه فاخفق واعتقد انَّ السبب يعود إلى خامة الحنجرة التي يمتلكها المطرب الكبير سعدون جابر، فهي من خامة الصوت الناعم الذي يحتوي في تردداته على ما ترومُ إليه غايات العمل الفني في استشعار المتلقي لمعاناة المغتربين والمسافرين في الحنين والرغبة للعودة إلى الوطن (الأرض، الأم، الحبيب) فكلُّ هذه العوامل أدت إلى نجاح الأغنية فنياً وشعبياً حتى أنها وُصِفَتْ كواحدة من أعظم مئة أغنية عربية في القرن العشرين في استفتاء قامت به «بي بي سي» البريطانية مع أغنية «عيني عيني».
فكرة العمل:
من عنوان الأغنية «يا طيور الطايرة» وبعدما عرفنا ما يؤديه رمز الطير سيتبادر لذهننا ان التأليف الموسيقي سيحتوي على معاني الحنين والشوق كما يحتوي في الوقت نفسه على الشعور بالحزن من مسافات البعد ورنين الاغتراب وهكذا فعلها الكبير كوكب حمزة فقد كانت مقدمة الأغنية الموسيقية تتألف من مقام الرست – المستقيم- بالمعنى الفارسي والذي يؤدي مُسحة الفرح غالباً من درجة الـ( دو) وجملة من مقام الصبا من درجة الـ (لا) المحزن ليمتزج الاسترخاء عندما يكون حال المُنادي في الوطن (من الرست) بالحزن الدفين (من الصبا). والمُلفت للإهتمام أننا نجد الغناء يرتكز على مقام السوزناك من درجة الـ (دو) فالسوزناك كلمة فارسية معناها المؤلم وقد يكون الفرس قد أعطوه هذه التسمية لأنه يتكون من جنسين الأول (رست على الرست) والثاني (حجاز على النوى)، فالرست في اللغة الفارسية معناه الاستقامة والثبات والحجاز فيه من اللوعة والشجن وعليه عندما ينتقل الحال من الإستقامة والثبات الى اللوعة والشجن سيكون الأمر مؤلماً على الإنسان -من الوطن الى الغربة -وهكذا فقد تمازج معنى السوزناك مع موضوع النص لتتكون لنا فكرة العمل الفني الشاملة.
التنغيم (التلحين):
يبدأ الغناء من الدرجة الخامسة (صول) من مقام السوزناك على الـ (دو) أي من الجزء المشترك بينه وبين مقام الرست وعلى إيقاع الأيوبي 2/4 بأصوات الكورس النسائي ليفتتح نداء الحنين فقد مثلت هذه الأصوات النسائية مجموعة من الأشواق والمشاعر والأحاسيس الكامنة في النفس البشرية.
يا طيور الطايرة مرّي أبهلي..
ويا شمسنا الدايرة شوفي هلي..
فيكمل المطرب سعدون جابر هذه النداءات الدافئة بصوتهِ المولع بسماع أخبار الآخرين الذين ابتعدت عنهم المعلومة ليرسل سلامه على أجنحة الطيور وأشعة الشمس التي تدخل كل النوافذ والبيوت.
سلمّيلي وغنيّ بحجاياتنا.. ( حكاياتنا)
سلمّيلي ومري لولاياتنا..
آه لو شوقي جزا وتاه وي نجمة !!
آه لو صيف العمر ما ينطي نسمة !!
وبعد هذا المقطع ينتقل التنغيم إلى جزء السوزناك المحزن (نغم الحجاز على الصول) ليصف لنا مدى شعوره بالإغتراب وكيف يكون الهوى له كالعشب المهدئ (ادواغ) على انه الأنيس الوحيد حين يأخذه الخيال إلى جدائل الحبيبة.
والهوى أدواغ الحبايب
بكيفه يغفة وي الكصايب
فيلتحق الكورس النسائي بجزء السوزناك الأول (رست الدو) لتكتمل صورة الألم ويلتقي النص والتنغيم معاً في معنى نغم السوزناك.
يا طيور الطايرة
يا شمسنا الدايرة.
ولا بد لهذا الألم ان يظهر بصوتٍ عالٍ مع إعادة تنغيم (سلمّيلي ياطيور الطايرة.. سلمّيلي ياشمسنا الدايرة..) بتعليق الجملة على نغم الهزام من درجة (مي كار بمول جواباً) ليبين المُنغم (الملحن) شدة الحاجة إلى توصيل السلام على أجنحة الطيور ثمَّ يراوغ المُنغِّم ذهن المستمع بومضة من نغم النكريز على درجة الـ (فا) فالهزام على (مي كار) والنكريز على الـ (فا) هي من مشتاقات أو متسلسلات نغم السوزناك فكان الإبداع في رسم الصوت وهندسة البناء.
المقطع الثاني:
تبدأ الموسيقى الممهدة لغناء هذا المقطع بجواب نغم السوزناك من درجة الـ (دو) مموهة السامع بين الحجاز والرست حتى تستقر على سلم السوزناك ليبتدأ المقطع بتعليق نغم الهزام على درجة الـ (مي كار) والزحف غنائياً بالتدريج الى حجاز الصول ومن ثمَّ رست الـ (دو) ليستقرّ أخيراً على نغم السوزناك فالصعود جواباً لدرجة الـ (مي كار) كان للتعبير عن وصول المُخاطب إلى ذروة النداء الصارخ:
يا طيور الطايرة شوفي هلي
ويا شمسنا الدايرة بفرحة هلي
سلمّيلي الشوك(الشوق) يخضر بالسلام وبالمحبة
سلملي الشوك طير وياج رايح عرف دربه
والسما أمصحية وصحيت أنا كمر (قمر)
وقلب الأحديثة ( الصبية) مثل شاطي ونهر..
فقد اعتمد المنغم هنا في أسلوب استقراره على أصوات الكورس النسائي بقفزة جميلة على بعد 3 ونصف درجة من الـ (صول ج- دو ق) حتى يرجع إلى تعليق نغم الهزام (مي كار) ليفاجئ المستمع بانتقالةٍ جميلة جداً إلى نغم البيات ( صول ) في:
والقلب جا وين اظمه … ثم يعود في الجملة نفسها إلى تنغيمها على نغم الحجاز مع رست فيستقر على سوزناك الـ (دو) «والقلب جا وين اظم وبعد يا هو الي انشده؟».
ثمَّ يعود لنغم البيات في «والهوى يسافر، يسافر بمكتوب بجنح طير».
حتى يتحول إلى حجاز الـ (صول) في «وبكصيبه (جديلة) تحنت بليلة مهر» فيختم المقطع على نغم السوزناك في «سليملي يا طيور الطايرة/ سليملي يا شمسنه الدايرة».
المقطع الثالث:
تتكرر موسيقى المقطع الثاني ليستلم الغناء من الموسيقى تعليقَهُ على درجة الـ (مي كار) ولكن هذا المقطع يختلف عن المقطع السابق غنائياً حيث أن جملَهُ الغنائية تمت على نغم الهزام حتى النهاية وهذه بحد ذاتها إحدى غرائب أساليب التنغيم في الموسيقى المقامية حيث كان من المتوقع أن ينهي المؤلف الغنائي الأغنيةَ بنغم السوزناك على (دو) كما ابتدأت غناء في مقطعها الأول فقد استخدمَ الفنان الكبير كوكب حمزة الحلقة الوسطى من نغم السوزناك وهو نغم الهزام الذي يقع ما بين الرست والحجاز وهذه نقطة تكتيكية في هندسة الأغنية العراقية.
مو بعيدين، اليحب يندّل دربهم.. مو بعيدين..
مو بعيدين، القمر حط أبقربهم.. مو بعيدين..
لونهم لون الربيع اليضحك ابوجه السنابل
ياطيور الطايرة
وشوقهم شوق الحصاد اليدنى حضنات المناجل
ياشمسنا الدايرة
سلمّيلي لو وصلتي أديارهم
سلمّيلي وشوفي شنهي أخبارهم
سلمّيلي ياطيور الطايرة..
سلمّيلي ياشمسنا الدايرة..
أحاه يا ديرة هلي، احاه يا ريحة هلي، احاه يا طيبة هلي أحاه يا جنة هلي
التوزيع:
لا غُبارَ على كل ما أجراه الموزِّع الموسيقي من محاكاة بين الآلات الموسيقية – الكمانات،الغيتار،الناي،الأكورديون – فقد كانت تعبّر بشكل جميل عن الفكرة التي تكوَّن منها العمل الفني وكما يجدر بالذكر أن الغيتار لعب دوراً كبيراً ولأول مرةٍ في تاريخ الغناء العراقي في التوزيع الموسيقي.
الغناء:
ليس لي أن أضيف شيئاً عما قلته في مقدمة قراءتي عن صوت الفنان الكبير سعدون جابر غير أني أقول أن الغناء ثقافة مستقلة، فبهذه الأغنية استطاع سعدون جابر أن يحتكر الجمال والإبداع لصوته لأن صوته تعايش مع الفكرة والإحساس فقد ذاب مع كل هذه التقلبات النغمية والانتقالات غير المألوفة، وقد توهّم بعض الذين حاولوا إعادة هذه الأغنية بصوتهم بما لديهم من ممتلكات في الصوت بان ما يمتلكونه من عُرَبٍ صوتية هو من سيجعل الأغنية أكثر جمالاً من قبل فرغم قوة دفعِ صوتهم وعُربهم لكنهم أخفقوا بأدائهم لأنهم لم يعرفوا كيفية توظيف هذه الممتلكات جمالياً وحسياً.
تحسين عباس
تحليل رائع وخبرة عميقة بكل مفاصل نغمات لحن الأغنية .. لا أستكثر عليك هذه القدرة الفائقة في التحليل لأنك ابن العراق .. وحينما تتكلم الأغنية العراقية يصمت الجميع. أتمنى في المرة القادمة أن تشرّح لنا أغنية فاضل عواد
هلو واحنا نهل .. يا محلا لم الشمل
يا دنيا خلي احبابنا .. يضوون شمعة بابنا
وعيونكم ما نمل ..
وعيونكم ما نمل …
التي كانت مناسبتها إعادة العلاقات بين سوريا والعراق لفترة معينة أيام الراحلين (المرحومين بإذن الله) الرئيس حافظ الأسد والرئيس صدام حسين.
الاخ الفاضل : نبيل العلي
في البداية اشكر لك حضورك البهي هنا بين ثكنات نصي النقدي كما اشكرك على ما تفضلت به من وصف جميل لما قمت به من تحليل لهذه الاغنية وأما عن طلبك في الكتابة عن أغنية ( هلو واحنه نهل) للمبدع الكبير فاضل عواد فأود اعلامك اني انهيت كتابة قراءة اخرى عن أغنية ( عليك أسأل )وسوف يكون لي في قادم الايام قراءة اخرى عن الاغنية التي اوأمت اليها ….
تحياتي وتقديري لك …
من اروع المقالات التي قرأتها في تحليل الأغاني. احرترافية عالية تدفعني بشدة وشوق للتعرف على والتعلم من كلتب المقال الاستاذ تحسين عباس. اوجه لك تحية مليئة بالتقدير والامتنان
هل من تحليلات شبيهة لاغانينا العربية الخالدة؟
كم اتمنى ان تكون الاجابة بنعم
الف تحية وتقدير لك أستاذ تحسين عباس…تحليل رائع وذوق راقي اخي الكريم
استاذ تحسين …هل لديك صفحة على الفيس بوك يمكننا من متابعة ما تكتبه اناملك المبدعة…تحياتي وامنياتي لك بدوام الصحة والعافية
تحليل أكاديمي دقيق وذكي .. لك الحب