أقراطٌ تسابق الموت

حجم الخط
2

برلين – خوناف كانو: حان الغروبُ ثانيةً تدخل أشعة الشّمس البرتقالية من النّافذة. تراقب رقص الأغصان مع نسيم الرحيل. تستمعُ إلى صوتٍ عتيق يخاطبه قائلاً:»ليه يا بنفسج بتبهج و أنتَ زهر حزين». تعدُّ حبَّ الشّباب في وجهها. لقد زاد عددها مجدّداً، كلّما نامت وحلمت به يدنو منها وينظر إلى جنونها من دون أن ينطق بكلمة.
استيقظت فيما بعد ولم تجده، تولد حبّة جديدة في وجهها، وإن كانَ الحلم حزيناً مثل قلبها، فحجم الحبّة يكبر أكثر، إن ذهبت إلى مكان ما بعد حبسٍ طوعي طويل وهي الفاشلة في الابتسام الخادع. هربت بسرعة إلى وجوه لا تعرفهم و بكت. غريبٌ هذا البكاء لا يقدر المكوث في صدرها، البكاء السُّعال. غريبٌ هذا الحب لا يشبه شيئا، هي التي لا تؤمن بوجود الله، لكنها تقنع نفسها بأنّه ينتقم منها لأنها لم تحب من أحبّوها، تسخر من فكرة الزّواج، وتقول في نفسها «أليس غباءً أن تعيش مع شخصٍ لسنوات طويلة وتجلب منه ابناً ليعاني هو الآخر في هذه الحياة، لماذا سيستمر هذا النسل المشؤوم، نولدُ في بلادنا، نحبّها كثيراً ولا ننتظر منها الحب، ثم نُجْبَرُ على تركها، حتى اللاموس* يهاجر بأعداد كبيرة ثم تقوم ذريته برحلة العودة، هل سنعود؟».
متعبةٌ هذه الشّمس الرّاحلة تظنُّ نفسها ستنام. تنثرُ أقراطها كلها على الطاولة. أقراطٌ ملونة وبعضها ذهبيّة. قرطٌ واحد مدوّرٌ، كدوار حياتها، دوار متاهاتها، الأرض مدوّرة وكروية، والقرطُ أيضاً. لابدّ أن تعودَ يوماً إلى المكان الذي سقط قرطها المدوّر فيه، قرطها الذي تصدّأ حزناً، أذنها التي لا تسمع سوى صوت العتاب، جلد الذات الذي احتلَّ هواءها، كانت صغيرةً ترتكبُ الأخطاء ككل الأطفال، وتخاف، تخاف كثيرًا إذا صعدت الشجرة وانشقَّت تنورتها، لكن ممَ تخاف، من المال الذي سينفد، من توبيخ أمها، أم من الناس؟.
حتى الخوف وصل إليها مشوّباً موبوءاً، الحرب ضيفتها اليوم، عليها أن تستقبلها بصمت. أن تسمح لها أن تخلق حرباً في ذاتها، أن يكون للشهداء مكانٌ فيها، أن يعاتبوها، ويغفروا لها، لوهلةً تستيقظ تكتشف إنّها على حافة الهاوية. نحن أبناء السقوط، أبناء الحرب، نحن المنوّمون مغناطيسياً. نمشي في شوارع الموت، تنهمر علينا الدماء، ينهمر علينا الاستهتار بالحياة، نرمي أجسادنا في أقرب حاوية مهملات، تبتسم السّماء في وجوهنا الملوّثة من غبار الأمس، اخترع العلم الاستنساخ البشري، لكنه لم يخترع بعد «الاستبدال البشري» هكذا بكل بساطة، أن يتواجد «روبوت» أو كبسة زر اسمها «تغير إلى أحد آخر» تفكر كثيراً فيما لو تمّ تبديل الرّصاص بالورد، كانت وردة أيضاُ، تنتظر الصيف لترتدي فستانا جميلا، أو تلعب في الحي، كانت تتخيل أصدقاءها عندما يكبرون، عندما تملأ التجاعيد وجوههم، وهم يحملون صورهم عندما كانوا شباباً، منتظرين الموت، كلنا سنموت، لكن العجائز فقط يموتون، علينا أن ننتظر جلودنا كي يرسم الزمن عليها خطوط الحياة، أيُّ حياةٍ هذه؟
نحن في سباقٍ مع الموت، من منّا سيعيشُ أكثر، إلا إنّ الموتَ يأخذ أحباءنا الذين نعتبرهم نائمين، في كلّ قريةٍ هناك مقبرةٌ للعائلة، وهي تتأمل المقبرة دوماً، سيكون قبرها هنا أو هناك لا فرق، لكن الآن تغيرت المقابر، هناك مقابر للشهداء، للعاديين، للمهاجرين، مقابر جماعية، تسخر الحياة من الأحياء لدرجةٍ يجهلون فيها أين سيمضون بموتهم، أين ستكون أجسادهم، لن يحنّطوا كما الفراعنة، ربما ستكتشفهم الأبحاث بعد مئات السنين مثلما اكتشفت الملكة «حتشبسوت»، وهي الأولى على السّيدات، لكنها محظوظة، وجدت في التاريخ وان كانت متأخرة، الحب وحده ينسي الإنسان قبره، الحب هو الموت الآخر، الموت الذي تشتهيه، كي يبكي من تحب عليك، كي يزور قبرك، كي يتذكرك، كي تدفن بجانبه، كي لا تفكر بحوريات الله..
لكنَّ المساءَ غريبٌ عنها، لم تعد الطفلة التي تتأمل والدتها عندما تُلبسها ثياب النوم المريحة، متخيلة إنّ العالم كله سينام، هكذا تحولت فجأة إلى قنبلة، تنفجر أحياناً أمام أبواب المحطات، تضحكُ بسذاجة، ساقطة من علوها، من كبريائها، من عمرها، يحلو لها النوم على رصيفٍ ما في الفجر، دون أن تخجل، دون أن تخاف، كم ثقيل ظل هذا العام، كم هو رقم تافه، 2016، ما الفرق بين 16 و 17 و18 ، إن لم نكن مع نحب، نتعلق دومًا بكل ما يخص بالقرن الفائت، كل ما مضى كان جميلا، كان ذا قيمة، لكن هذه الأرض تبعثرنا، لا نصبح جسدًا واحدًا، القلب وحده لا يحتاج لوقت أو تاريخ أو «مينو» كما يضعها بعض الناس لعريس المستقبل، هو فقط وخز، إبرة تخترق حائط الوجود، تخلق ثقبًا فيه، ويصبح حينئذٍ الإنسان مريضًا، عاشقًا، على عينيه تتمدّد غشاوة الحب، رمى بنا القدر إلى منتصف جسر، منتصف طقس، لا نهاية واضحة للجسر، ولا الغيوم تتعانق كي تمطر أو تبتعد لتشمس، بتنا معلقين بسقوف الحرب، لا نسقط ولا نستقر، نحن في صحراءٍ واسعة نقلّب الرّمل بحثاً عن الماء، وينتهي بنا المطاف عطشًا، كانت تحبُّ الطائرات التي تمرُّ فوق سماء مدينتها، تلوّحُ لها على السّطح، تغيرت الطائراتُ أيضاً، كانت بيضاءَ نقيّة أصبحَتِ الآن عسكريّة غاضبة بذيلٍ طويلٍ كالحشرات، تُرى كيف يرمي من في الطائرة الموتَ على النّاس؟ من هو؟ ماذا يأكل؟ هل يستطيع أن ينام؟
مع الوقت الضائع تمرّ الحياة، لا تحس إنّها امرأة واحدة، المكانُ هناك يحضن ريحَ الماضي، وهي لازالت تذهب إلى مدرستها الثانوية، تشدُّ شعرها في الصّباح، وكأنّها ذاهبةٌ إلى حرب، إنْ لمحت الموجّهة المدرسيّة خصلةً سكرانةً تلعب هنا أو هناك كانت ستعاقبها، الثمالةُ هي جوهر المرء، يا لعظمة الإنسان، الذي صنع كأساً تسعده، لكنها لن تعيد إليها مرح المراهقة، وخجل الكحل في عيون طفلةً تكبر، ولا سقف الحافلة المصفّر الذي يرفض يدها القصيرة، ولا شروالها الفضّي الذي كانت تفتخرُ به وهي تمرّ بجانب مدرستها الإعدادية، الآن تمرُّ من أين؟
لقد فقدنا جمال الحياة حتى إنّنا نسينا معنى النّصر، تسمعُ فجأةً صوت مذيع يصدحُ من تلفاز البيت قائلاً: «لقد حقّقت القوّات التابعة لنا النّصر في الجبهات وعلى إثره فَقَدَ العديد من مقاتلينا حياتهم وارتقوا إلى مرتبة الشهادة».
تغلق باب الغرفة، ويدخلُ الشّهداء واحداً تلو الآخر إلى ما قالوا لنا إنّه:» بيت الله»، تتعانق الغيوم هذه المرة، وتمطر أعمار من حقّقوا ذلكَ النّصر، ليضيع القرطُ ثانيةً ويستدير في أرضٍ تبعثره.

أقراطٌ تسابق الموت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هبة مصر:

    الثمالةُ هي جوهر المرء
    وقد ثملت من القراءة
    هذا الموضوع برغم اننى لم اكن يوما افكر ان اعرج على موضوع ادبى واناى اتصفح المواقع الاانه اتحفنى
    ملهم ونموذج للكتابة المميزة

  2. يقول Omar:

    متى تنام هذه الوردة الحمراء

إشترك في قائمتنا البريدية