في ظل قعقعة حرب الطوائف المشتعلة في العراق لا أحد يسمع صوت الأقليات الصغيرة المنسية، فالكل يكتب عن هموم ومطالب المكونات الكبيرة حيث تسلط أضواء الكاميرات وتحتفي المواقع الإخبارية، ففي عراق الشجون ستجد في صراعاته الحزينة وحروبه الداخلية العبثية تكون الأقليات الصغيرة أو ذات التأثير المحدود أشبه بالأيتام على مائدة اللئام لا أحد يلتفت لهمومها.
ان موضوع الأقليات أصبح من المواضيع الساخنة في منطقتنا منذ حوالي ربع قرن، تكرس له مؤتمرات وتناقش فيه رسائل جامعية ومع ذلك ما زال ما كتب عن الموضوع شحيحا وغير علمي أو على الأقل لا يحتوي على طروحات موضوعية. وإذا أردنا الكلام عن الأقليات فينبغي علينا أولا ان نقدم تعريفا إجرائيا لمفهوم الأقلية، وقد وجدت ان تعريف لويس ويرث من التعاريف المناسبة لذلك إذ يقول: ان الأقلية هي جماعة من الناس تنفصل عن بقية أفراد المجتمع بصورة ما نتيجة خصائص عضوية أو ثقافية، تعيش في مجتمعها في ظل معاملة مختلفة غير عادلة مع بقية أفراد المجتمع، ومن ثم ترى هذه الجماعة نفسها عرضة للتمييز (Discrimination) . وطبقا لهذا الرأي فان وجود أقلية في مجتمع ما توجب بالضرورة وجود جماعة مسيطرة في المقابل ذات وضع اجتماعي أعلى وامتيازات أكبر. كما تحمل أوضاع الأقلية معها طبقا لهذا الرأي الحرمان من الاشتراك الكامل في حياة المجتمع.
أما لجنة حماية الأقليات التابعة للأمم المتحدة فانها تضع تعريفا واسعا وفضفاضا إذ تقول: الأقليات هي (جماعات) تابعة داخل شعب ما، تتمتع بتقاليد وخصائص أثنية أو دينية أو لغوية معينة تختلف بشكل واضح عن تلك الموجودة لدى بقية السكان وترغب في دوام المحافظة عليها.
وفي الفسيفساء العراقية هنالك أقليات من كل نوع يمكن ان تجدها في التعريفات الأكاديمية للكلمة؛ اثنية ، دينية ، مذهبية، ثقافية … بعضها كبير وذو صوت مسموع ووصل إلى مراحل متقدمة في الحصول على حقوقه وفرض نفوذه في المجتمع والبعض الآخر من الأقليات لم يحصل على أي شيء. ربما سيعلق البعض ممن سيقرأ هذا المقال بانه يطرح أمورا غير مهمة فلماذا أشغل نفسي به وهنالك هموم أهم وأكبر؟ وهنا أريد أن أقول ان الحق لا يجزأ وان المشكلة واحدة وان الحل واضح والكل يعرفه تمام المعرفة ويشيح عنه ببصره، ان ترياق حالة الاحتراب العراقي هو دولة المواطنة التي كتبت وسأظل أكتب عنها.
الأقلية المنسية الأولى في العراق هم العراقيون من أصل أفريقي أو ما يعرف بزنوج العراق، وهي أقلية كبيرة العدد (لا توجد إحصائية دقيقة لعدد العراقيين من أصل أفريقي في العراق) إذ يقدر عددها بحوالي 400 ألف نسمة، ويوصلها البعض إلى قرابة المليون. نشأت تاريخيا من مراحل الرق المتعددة، تتمركز في جنوب العراق وفي محافظة البصرة بشكل رئيسي، كما توجد بعض أعداد من العراقيين من أصل أفريقي في عدد من المحافظات الأخرى. عاشت هذه الأقلية في ظل ظروف غير إنسانية على مر وجودها في العراق. جلبوا من دول أفريقية متعددة مثل السودان والنوبة واثيوبيا وزنجبار (ومنها اشتقت كلمة زنجي وزنج، وحادثة ثورة الزنج التي قام بها العبيد من المجلوبين من زنجبار في البصرة إبان العصر العباسي أشهر من أن ندخل في تفاصيلها)، واستمر وجود الأقلية السوداء في ظل ظروف العبودية في العراق حتى ستينيات القرن العشرين برغم القوانين التي تمنع الرق، إلا ان الكثير من بيوت شيوخ القبائل ورجال الدين والطبقة العليا من المجتمع كانت تمتلك رقيقا أسود في بيوتها. وعاشت هذه الأقلية منزوية في المجتمع العراقي تعاني تمييزا اجتماعيا مغلفا برياء اجتماعي ينكر وجود التمييز ويدعي ان لا تمييز بين العراقيين على أساس اللون، إلا اننا لم نشهد صعودا اجتماعيا لهذه الأقلية إلا في مرحلة متأخرة من عقد السبعينيات من القرن العشرين في بعض النشاطات كالغناء والرقص والرياضة. مع التغيير الذي حصل عام 2003 إثر الغزو الأمريكي واسقاط نظام صدام حسين وما تبعه من مطالبات تأملت خيرا في الديمقراطية الوليدة، ولدت بعض حركات المجتمع المدني المطالبة بحقوق الأقلية السوداء في العراق مثل «حركة العراقيين الحرة» التي تأسست عام 2007 والتي تطورت إلى حركة حقوق مدنية ذات مطالب سياسية هي «جمعية أنصار الحرية الإنسانية» في 2009 التي قادها الناشط المدني جلال ذياب الذي أطلق عليه البعض (مارتن لوثر كنغ العراق)، ودخلت انتخابات مجالس المحافظات في البصرة حيث التواجد الأكثر للأقلية السوداء إلا ان الحركة لم تحصل على مقعد واحد، والأدهى من ذلك هو فوز صحافي عراقي أسود بمنصب رئيس فرع نقابة الصحافيين في البصرة، لكنه واجه معارضة من الكثير من الصحافيين البصريين بسبب جنسه، إذ قال بعضهم «لا يمكن لعبد أن يقودنا» مما أدى به إلى الانسحاب!!! ولم يسلم جلال ذياب ( مارتن لوثر كنغ العراق ) بالرغم من ان نشاطه كان سلميا، فقد اغتالته رصاصات كاتم الصوت مساء يوم السبت 26/4/2013 وهو خارج من مؤتمر صحافي في البصرة ابان انتخابات المحافظات، ليلقى مصير ايقونته الأمريكية نفسه، وطبعا قيدت الجريمة ضد مجهول ولم يتم الوصول إلى نتيجة في التحقيق في القضية لحد الآن .
أما الأقلية المنسية الأخرى فهم غجر العراق، وعندما تذكر كلمة غجر فانها تعني مفهوما محددا يشير إلى جماعة بشرية (أقلية اثنية – ثقافية) تعيش في العديد من المجتمعات في آسيا وأوروبا وأمريكا لها سمات محددة، وبالرغم من إطلاق تسميات عديدة ومختلفة بحسب البلدان التي يعيش فيها الغجر إلا أن هنالك سمات عامة تجمعهم يمكن إيجازها في: لهم مواصفات فيزيقية (اللون أسمر نحاسي، الشعر المستقيم الأسود ، والأعين اللوزية اللامعة)، كما انهم يمتازون بالترحال الدائم وامتلاكهم لغة خاصة بهم، والحرف التي يمتهنونها هي الحدادة وقراءة الطالع والموسيقى والرقص، ولا توجد إحصائية دقيقية للغجر في العراق إلا ان بعض التقديرات أشارت إلى حوالي 300 ألف نسمة بحسب مناطق سكناهم التي استقروا فيها بعد ان ترك أغلبهم حياة الترحال.
الغجر في العراق ويطلق عليهم (الكاولية ) في الوسط والجنوب و(القرج) في شمال العراق لهم قصة موغلة القدم في تاريخ العراق، حيث ان موجاتهم وصلت منذ أكثر من 1500 سنة، وبقوا معزولين في مجتمعاتهم المغلقة عليهم والتي تواجه بتمييز اجتماعي من المجتمع الكبير الذي يعيشون فيه. وترتبط بهم الصورة النمطية الشائعة عن الغجر في العالم من أنهم أصحاب سلوك منحرف ومرفوض اجتماعيا مثل السرقة والغش والتسول والرقص والغناء وتجارة الجنس، وقد تعرضوا إلى الكثير من الإبادات على يد مجاوريهم بالرغم من انهم جماعات مسالمة ولا تستطيع الدفاع عن نفسها. ولم يكن الغجر قد اعتبروا عراقيين ولم يحصلوا على الجنسية العراقية حتى مطلع الثمانينيات إبان الحرب العراقية الإيرانية، وبناء على ذلك لم يكونوا يمتلكون عقارا أو بيتا أو أرضا بل هم عرضة للتهجير في أي وقت، وعادة ما كانت مجاميع الغجر تسكن في مخيمات مؤقتة على هامش المدن التي يقدمون خدماتهم لها، وقد سكنوا في الضاحية الجنوبية الشرقية من بغداد التي عرفت باسم الكمالية كما سكنوا في الضاحية الشمالية الغربية من بغداد قرب (أبوغريب )، وقد سعى مركز البحوث والدراسات الاجتماعية والجنائية في مطلع السبعينيات عبر عدد من دراساته وبحوثه إلى إيجاد نوع من التكيف الاجتماعي للأقلية الغجرية ومحاولة تذويبها اجتماعيا، إلا ان هذه الجهود فشلت نتيجة العزل والتمييز الاجتماعي الشديد الذي واجه به المجتمع الغجر الوافدين للاستقرار بقربهم، وطرد أولادهم من المدارس ورفض جيرانهم تقبل سكنهم بقربهم، وبرغم بروز نجمات في فن الغناء العراقي من الأقلية الغجرية إلا ان مكانتهم الاجتماعية بقيت متدنية وبقوا معزولين ومرفوضين اجتماعيا. المفارقة ان العديد من الشخصيات المهمة وذات النفوذ في عهد صدام حسين كانت تعشق الغجريات وتربطهم بهن علاقات غرامية وزيجات سرية، لذلك مثل هذا الوضع نوعا من الحماية للغجر من هجمات مجاوريهم، ولكن ومع سقوط النظام أصبحت النقمة عليهم مضاعفة من قبل مجاوريهم فبالإضافة إلى رفضهم الاجتماعي القائم على انهم مجتمع رذيلة كانوا رمزا لمجموعة محسوبة على النظام السابق، فتم الهجوم عليهم من قبل ميليشيات الإسلام السياسي وقتل عدد منهم وطرد وتهجير الآخرين، وقد لاذ بالهرب من استطاع منهم إلى دول الجوار- الأردن وسوريا ودول الخليج – وبقي عدد ضئيل يعيش حياة التشرد في مخيمات بائسة على هامش المناطق الصحراوية في العراق وهم مهددون من ميليشيات مختلفة قد تهجم عليهم في أي وقت. الزنوج والغجر مثالان لأقليات صغيرة في العراق لم يسلط عليها الضوء تمثل ما خفي من حالة المأساة العراقية.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي
أعتقد أن الزنوج قد ذابوا بالمجتمع العراقي
فلا لغة تجمعهم كالغجر – ولا تقاليد خاصة بهم كالغجر أيضا
أنا لا أعتبر الزنوج أقلية لأنهم اندمجوا مع السكان وتزاوجوا معهم بعكس الغجر
الغجر مجتمع منغلق على نفسه لهم عادات وتقاليد ولغة خاصة بهم
ولا حول ولا قوة الا بالله