كنت في الخامسة عشرة حين حظيت بمخطوط قديم كان كتبه شيخ من أهل ضيعتنا الراحلين. كان مكتوبا بخطّ اليد، ومخاطا باليد أيضا، ومغلّفا بورق أكثر سماكة من الأوراق التي خُطّت عليها النصوص. وقد قدّرت عمر المخطوط آنذاك بنحو مئة عام، إذ كان الذي أهداني إياه، وهو ابن كاتبه، في السبعين، فيما الأب الشيخ، لا بد أنه كان في مطلع شبابه حين أنهى كتابة مخطوطه. حين رحت أقلّب الصفحات، محاذرا ومتهيّبا، أحبطني أن أجد حصّة الشيخ منها قليلة. كان شاعرا لكن ليس له في المخطوط إلا ثلاث قصائد أو أربع، أما في باقي الصفحات فقصائد معروفة لشعراء بينهم أبو فراس الحمداني وأبو تمام والفرزدق كنت حافظا لبعض أبياتها.
كنت آمل أن يكون ما حزت عليه مخطوطا كاملا، أي أن يكون ديوان شاعره غير المنشور. وكثيرا ما تساءلت، فيما كنت ما أزال محتفظا بالمخطوط، لماذا بذل صائغه هذا الجهد لتدوين قصائد لسواه. هل لأنه خطّ على الورق ما يحفظه ليعود إليه كلما خذلته ذاكرته؟ هل ليضمّ نفسه إلى شعراء كبار خالدين في كتاب واحد؟ أم هل هي عادة في ذلك الزمان: أن يكون للشاعر كتابه الذي يحتوي على ما له وما لسواه.
ما أعاد تذكيري بذلك الكتاب القديم، الذي عدت وفقدته، هو كتاب صغير صدر عن دار ميريت في وقت ما من هذا العام. فبدلا من مفتتح واحد لهذا الكتاب أثبت مؤلّفه حسين عبد العليم ثلاثة مفتتحات على التوالي، وهي أجزاء من قصائد لكل من كوثر مصطفى ومدحت العدل وأمل دنقل. وفي مسار الكتاب نجد ما يشبه المفتتحات لآخرين كثيرين بينهم، أحمد شوقي وأحمد فؤاد نجم والإمام الشافعي. ذاك أن الكتاب الصغير، في جانب منه، هو سيرة مؤلّفه الخاصة بعلاقته بالكتب، وقد جمع في ذلك المخطوط قصائد ونصوصا أحبها، وأعطاه ذلك العنوان القديم «التماع الخاطرة بالسيرة العاطرة»، حتى إن كان كتّاب مفتتحاته معاصرين له ومنهم، إضافة إلى مَن ذُكروا أعلاه، يوسف إدريس وإبراهيم عبد المجيد ونجيب محفوظ وجمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم ويوسف مراد ولويس عوض، إلخ.
هي سيرة قراءة مندمجة مع سيرة حياة مقطّعة فصولا من غير رابط بينها ولا نظام. في أحيان يكون ما نقرأه بالعربية الفصحى وفي أحيان أخرى بالعامية، وفي أحيان ثالثة نقرأه متراوحا بينهما، كأن الكاتب لم يقرّر، وهو بات في منتصف نصّه، إن كان سيذهب به نحو هذه أو يبقيه عند تلك. وقد يخطر له، هكذا فجأة، أن يعيّن وجهة لكتابه، فيقول مثلا إنه عن الذاكرة، بل عن كون الرائحة هي مفتاح التذكّر عنده. في مرّة أخرى يبدو المكان ثيمة بديلة، المكان الحاضر بطاقته الخاصة وليس فقط بمشاعرنا حياله: «أتلمس الجدران وأنا أقول لها: إزّيك.. وحشتيني، شعرت بها تتحرّك رادّة عناقي التلامسي. كانت حركتها خفيفة حيية ثم انتبهت لخشيتي من وقوع البيت».
أما القصّة الأولى في الكتاب، وهي جارية على لسان ولد صغير يحاور أخته الشابة عن البيت الذي أجبرت العائلة على إخلائه. أراد الولد أن يجري تصوير كل شيء في البيت قبل مغادرته، وإن لم يرضَ والده بإعارته آلة التصوير فسيرسم ذلك كله بالقلم الرصاص. هي قصة بالعامية مليئة بالإلماحات الأدبية، التي يروح يتساءل قارئها، إن كان يمكن للفصحى أن تنقل هذا الدفق الحيوي من الكلام الجاري على رسله، العامي لكن العميق الدلالة، رغم كونه مكتنَفا بتساؤلات طفلية. هي قصّة مفردة، أو «مفتتح» كما شاء الكاتب اعتبارها، لكن من ضمن كتاب هو «رواية» حسب ما نقرأ على صفحة الغلاف.
بسبب هذا العنوان، أو التعيين (رواية) نظل، في ما نحن نقلّب الصفحات، نحاول إرجاع ما نقرأه إلى سياق متتابع، حسب ما يقتضيه «فن الرواية»، فيعاندنا ما نقرأ ممعنا في تفلّته وسيره على هواه. في أثناء ذلك نقرأ مقاطع، أو فصولا مدهشة، أو قصصا، عن الفقر والمرض، وعن اللهو بهما من قبل النساء المريضات الأخريات، المتجمّعات لأخذ حصصهن الأسبوعية أو نصف الشهرية من الكيماوي، فيرحن يرقصن بهزّ أردافهنّ وما بقي من أثدائهن التي اقتطعت منها الجراحات أجزاء. لا أظنّ أن هذا المشهد الطويل كان يمكن للفصحى أن تنقل كلّ غناه، طرافته ومأساويته معا، كما فعلت العامية التي كتب فيها.
إن كان حسين عبد العليم مصرّا على اعتبار كتابه رواية فهو، لا بدّ، أكثر الروائيين حرّية. ذاك أنه يكتب ما يحبّ أن يكتبه غير مكترثّ بتلك الآليات الصعبة والزاجرة معا بأن الرواية يجب أن تلتزم بنظامها كمثل ما يلتزم الموظّف بدوام وظيفته أو يخضع التلميذ لنظام صفّه.
كتاب محيّر وجميل. كتاب حرّ على الرغم من أنه يدفع قرّاءه إلى التساؤل: هل إنه ساع إلى ريادة ما، أم أنه كتاب هواية لكاتب يريد أن يكون بلا لقب.
٭ كتاب حسين عبد العليم «إلتماع الخاطرة بالسيرة العاطرة» صدر عن دار ميريت، 2018.
٭ روائي لبناني
حسن داوود