أكيتو هو عيد رأس السنة البابلية والآشورية، وربما كان أقدم عيد عرفته الحضارة الإنسانية، حيث يشير أكثر من باحث إلى أن الاحتفال بعيد أكيتو ابتدأ في الألف الثالث قبل الميلاد واستمر حتى القرن الثاني قبل الميلاد، ليظهر بعد ذلك في أعياد واحتفالات أخرى، بعد أن طرأت عليه بعض التغيرات.
فقد انتقل عيد أكيتو من بابل إلى آشور ومنها انتقل إلى الكرد والفرس والشعوب الأخرى ليمثل الاحتفال بعيد الربيع، بعد أن اتخذ مسميات أخرى مثل النوروز والنيروز، الذي يقام في الحادي والعشرين من مارس/آذار الذي يتزامن مع الأول من نيسان/أبريل البابلي، بينما بقيت بعض الطوائف المسيحية في العراق وسوريا تحتفل برأس السنة البابلية والآشورية في الأول من أبريل.
وأكيتو كلمة سومرية لم يتوصل الباحثون إلى معناها بدقة، فأشاروا إلى أنها تعني بداية أو عتبة، بل أن البعض رأى أنها كلمة دخيلة على السومرية، وغير موجودة لا في اللغة السومرية ولا البابلية، لكن الإشارات الكثيرة في اللقى الأثرية تشير إلى احتفال السومريين منذ فجر السلالات ودويلات المدن بهذا العيد، فقد احتفل به في مدن أريدو، أور، لجش، كيش، أوروك، الذي يصدف في اليوم الأول من شهر حصاد الشعير المعروف في اللغة البابلية باسم (نيسانو) وهو الشهر البابلي الذي يقع بين شهري مارس وأبريل الشمسيين من تقومينا الحالي. ويعتبر العهد الذهبي لعيد أكيتو زمن الدولة البابلية المتأخرة وزمن الدولة الآشورية في الألف الأول قبل الميلاد، حيث كان الاحتفال يبدأ يوم الأول من (نيسانو) ويستمر الاحتفال لمدة 12 يوما، تتنوع فيه الطقوس والاحتفالات لتشمل الجانب الديني والاجتماعي والسياسي. ولان الحضارات الأولى في تاريخ البشرية حضارات زراعية، لذلك كانت الاحتفالات الأهم هي التي ترتبط بموسم الزراعة، مثل عيد اكيتو في الحضارة الرافدينية، وعيد الربيع أو شم النسيم في الحضارة المصرية، الذي يتزامن معه في الوقت تقريبا وهو بداية الاعتدال الربيعي، وكان التقويم البابلي تقويما قمريا وبذلك تكون السنة البابلية مقسمة إلى اثني عشر شهرا قمريا، وللحفاظ على مواسم الزرع وعدم تغيرها مقارنة بالسنة الشمسية، كان يصار كل ثلاث سنوات إضافة شهر ويعرف بآذار الآخر، لأن شهر آذار الذي يسمى بالبابلية (آذارو) هو آخر شهور السنة البابلية، ولا يزال اليهود لحد الآن يستعملون مثل هذا التقويم الذي اقتبسوه من البابليين أثناء وجودهم في بلاد الرافدين بعد السبي البابلي، حيث يستخدم التقويم العبري نمطا يسمى (قمري ـ شمسي) لذلك كان عيد أكيتو، حسبما يشير عدد من الباحثين يقع بين الحادي والعشرين من مارس ومنتصف أبريل الحاليين، بحسب حركة الأشهر القمرية وتغيرها ومدى مطابقتها للأشهر الشمسية إلى أن استقر في الأول من أبريل.
وكما اشرنا إلى أن أكيتو في جذوره القديمة الأولى عيد يُمثل رأس السنة الجديدة، ثم أصبح من المتعارف عليه الاحتفال بهِ في اليوم الأول من شهر أبريل كل عام في وسط وجنوب بلاد النهرين، بينما لا توجد دلائل على معرفة هذا العيد في شمال وادي الرافدين (آشور) قبل سنة (1200 ق . م) حين قام الملك الآشوري (تيكولتي نينورتا الأول) بعد غزوه وتدميره لمدينة بابل بنقل تمثال الإله مردوخ ضمن غنائم الحرب إلى بلاد آشور، وتأثرا بالحضارة البابلية ابتدأ الآشوريون بالاحتفال بهذا العيد. وأكيتو كما تشير الكتابات البابلية والآشورية هو عيد الاحتفال بحصاد الشعير، الذي كان يمثل العصب الاقتصادي لحياة المجتمعات، أما لماذا يستمر (12) يوما، فلان الرياضيات البابلية كانت تعتمد النمط الستيني في الحساب، وبذلك يكون العدد (12) ذا اهمية كبيرة باعتباره الجذر الأهم، ومن هنا جاءت قدسية الرقم (12) في الأبراج المستعملة لحد الآن، ويمكننا أن نلاحظ أن السنة البابلية ما زالت تستخدم في حساب الأبراج، لهذا نرى أن برج (الحمل ـ أبريل) هو أول الأبراج لاقترانه بشهر نيسان أول شهور السنة البابلية، كذلك انعكست قدسية الرقم (12) على سرديات الأديان الإبراهيمية كما نرى ذلك في أسباط بني إسرائيل وعددهم (12) وحواريي يسوع المسيح وعددهم (12) وائمة الشيعة الإمامية عددهم (12) وغيرها من التنوعيات التي استمدت قدسيتها من هذا الرمز البابلي.
وبحسب رأي علماء الانثروبولوجيا، أن ما يميز الإنسان ويعطيه خصوصية وجودية هو قدرته على إنشاء الرموز وربطها ضمن شبكة المعاني، فالعيش بالرموز وتوظيفها فعالية إنسانية بكلّ امتياز، بها يعيش الإنسان ويؤثث وجوده ويبني عالمه المادي والمعنوي، ويرسي نظام الأشياء والعلاقات بينه وبين الآخرين من الناس. ودلالة الأشياء والعلاقات لا تدرك إلاّ من خلال استعمالاتها وما تتضمنه من معنى في حياتهم وما تتخذه من دلالة في متخيّلهم الجمعي. وكما يشير بيار أنصار؛ فإنّ المجتمعات سواء الحديثة منها أو التقليدية أو تلك المسمّاة بمجتمعات ما قبل الكتابة، تنتج دوما متخيلات، تعيش بها وتبني من خلالها رموزها وصورها عن نفسها وعن الأشياء والعالم، وبواسطتها تحدد أنظمة عيشها الجماعي ومعاييرها الخاصّة. والجزء الأهم من المحمولات الرمزية التي تتشكل لتكون أنساقا اجتماعية يحيى بها المجتمع هو النسق الديني، حيث تنهض الحياة الروحية للجماعات على مستويين: مستوى التمثلات والتصورات الموجودة في وعي الناس والمتصلة بالأشياء المقدّسة، ومستوى الممارسات التي تظهر في أفعال الناس في الممارسات الطقسية. فـالمعتقدات الدينيّة تقوم في شكليها البسيط والمعقّد، وكما يقول عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم على تمييز جوهريّ بين ما هو مقدّس وما هو مدنّس، لذلك تنعكس هذه الطقوس على بقية الانساق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فعيد أكيتو، الذي يقوم أساسا على الاحتفال بالربيع وحصاد الشعير (وهنا يمكن أن نلاحظ ارتباط كلمة شعير البابلية والاكدية بكلمة شعائر او شعيرة بمعنى الطقوس الدينية)، يفرض محمولاته الثقافية على الكثير من انساق المجتمع، وبحسب طلعت ميشو يمكننا تتبع ايام العيد، لنجد الأيام الثلاثة الأولى كانت مُخصصة لطقوس تطهير وتنظيف المعابد، وهي طقوس تشبه إلى حد كبير ما يقام من طقوس في عيد الخليقة او البروانايا في الديانة المندائية في العراق، حيث يتم تعميد رجال الدين وتطهير المعبد وتعميد ادواته وقراءة النصوص المقدسة، وفي اليوم الرابع يعلن الكاهن الاكبر بدأ الاحتفالات الشعبية التي تبدأ بقراءة قصة الخليقة البابلية (اينوما ايلتش)، وفي اليوم الخامس يصل الملك إلى بابل قادماً من مدينة بورسيبا وبصحبتهِ الإله ( نابو )، ويتوجه إلى بوابة المعبد، حيث يقوم رئيس الكهنة بنزع شاراتهِ الملكية مؤقتاً، وهي التاج والصولجان والحلقة والسيف، عندها يدخل الملك إلى المعبد منحنيا بكل تواضع ورضِا لكبير الكهنة، الذي يصفعه بقوة على خدهِ، ثم يسحبه بشدة من كلتا أذنيه ويُجبره على الركوع أرضاً أمام مذبح الإله مردوخ، ويقوم الملك بتقديم اعترافهِ أمام الإله مردوخ، مؤكداً لهُ أنه حكم الدولة والشعب بكل محبة وصلاح وعدل ومساواة، ولم يقم بأي عمل يضر بمصالح بابل أو يُغضبُ إلهها المحبوب مردوخ، وأنه قام بصيانة ودعم أسوار بابل، وهنا يهمس الكاهن للملك؛ لا تقلق، سيستجيب الإله مردوخ لصلواتك ويُعلي ويُبارك سلطانك ويسحق كل أعدائك، ثم يصفعهِ ثانية على خده بقوة أشد من المرة الأولى، التي من المفروض أن تُسبب انهمار دموع الملك، وهذا يعني رضى الإله، ثم يُعيد الكاهن الأكبر إلى الملك شاراتهِ الملكية بعد تطهيرها بالماء المقدس، وكانت هذه الطقوس تجرى سنويا حيث يعرف هذا الطقس (بطقس إهانة الملك) لكي يستمد شرعيته ثانية من الإله مردوخ وبمباركة كبير الكهنة الذي يشارك بالطقس امام الجماهير وبذلك تلعب محمولات الطقس الرمزية القوة السياسية الممنوحة من الإله مردوخ عبر كبير الكهنة للملك الذي يتعهد بإقامة ملكه على أساس العدل والحكمة والشجاعة في الدفاع عن المملكة.
وفي اليوم السابع يقوم كهنة الإله نابو ابن الإله مردوخ بتقديم طقس معين يرمز إلى مشاركتهِ في تخليص أبيه مردوخ من أسر العالم السفلي، ثم يقومون بتقديم تمثيلية ـ افتراضية ـ تُصور موت الإله مردوخ وانتقالهِ إلى العالم السفلي، ويخرج الناس باكين منتحبين ممزقين ملابسهم وباحثين في كل الطرقات عن إلههم مردوخ، في أداء قد يكون جذره الانثروبولوجي ممتدا في العزاء الحسيني الذي يقام في عاشوراء لدى الشيعة فيما يعرف بـ (التشابيه) وهو مسرح شعبي يعيد تمثيل مقتل الامام الحسين في العاشر من محرم، وفي اليوم الثامن (يوم القيامة) ـ ويُعتبر أهم أيام الأكيتو وأكثرها فرحاً ـ يتم الاحتفال بصب (الماء العجائبي المقدس) على قبر الإله مردوخ في المعبد ليتم الاحتفال بنهوض الإله مردوخ من عالم الاموات في احتفال يشبه عيد القيامة في الديانة المسيحية، لتستمر بقية ايام العيد بالاحتفالات وتقديم الاضاحي وتكريس شرعية حكم الملك باجراءات طقسية.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي
مع الأسف أن دولة جارة للعراق تدعي أنها إسلامية وتحتفل بهذا العيد الوثني
ولا حول ولا قوة الا بالله
مقال أكثر من رائع.يبين التقاطعات الدينية عبر الأزمنة.في الحقيقة هناك إرتباطات قوية بين الديانات خاصة على مستوى الطقوس والشعيرة.