ألغاز جويس وسلطة المخيّلة

حجم الخط
2

«فكّ شيفرة عوليس: مقدّمة للعب مع رواية جويس»، يقول عنوان معرض يقيمه متحف ومكتبة روزنباك، في فيلادلفيا، احتفاءً بتحفة الروائي الإيرلندي جيمس جويس (1882 ـ 1941)؛ حيث سيُتاح للزائر أن يستكشف بعض أسرار الرسائل السرّية لبطل الرواية، ليوبولد بلوم، وأن يفتح أدراجه، ويقتفي أثر مسيره في خرائط دبلن، خاصة عنوان بيته، ويقرأ ما قالته محكمة استئناف أمريكية حول منع الرواية… «لقد وضعتُ الكثير من الألغاز والأحاجي، التي ستشغل بال الأساتذة طوال قرون»؛ هكذا صرّح جويس، نفسه، في التمهيد لعمل أدبي لعلّه، حقاً، «الكتاب الأشدّ خطورة» في تاريخ الرواية، كما تقول دراسة كيفن برمنغهام التي صدرت السنة الماضية.
وليس هذا المعرض إلا واحداً من عشرات، وربما مئات، الأنشطة التي تحتفي بالرواية، في هذا الأسبوع بالذات، وصولاً إلى يوم 16 حزيران (يونيو)، الذي استقرّ الملايين من أنصار جويس على تسميته بـ»يوم بلوم» Bloomsday، تيمناً بذلك النهار من عام 1904؛ حين تجوّل رجل أيرلندي يُدعى ليوبولد بلوم في شوارع العاصمة دبلن، ثمّ التقى بأيرلندي آخر شابّ يُدعى ستيفن ديدالوس، فترافقا بعض الوقت، وزارا دار بغاء بيللا كوهين، ثم عاد كلّ منهما إلى بيته. وكما هو معروف، تسرد الرواية وقائع ذلك اليوم، من الصباح الباكر وحتى قرابة الثانية والنصف بعد منتصف الليل؛ حيث الحوادث متناهية في بساطتها، رغم أنّ التاريخ يجثم عليها مثل كابوس، كما يعبّر ديدالوس. يُشار، هنا، إلى أنّ طه محمود طه نقل الرواية إلى العربية، في ترجمة تستحقّ التقدير العالي، أياً كانت هناتها؛ كما يواصل صلاح نيازي إصدار ترجمة أخرى، في أجزاء متتابعة.
الفصول الثلاثة الأولى تصوّر ديدالوس في برج مارتيللو، الذي يقطنه مع مولليغان وهاينز، ودرس التاريخ الذي يلقيه على طلاب مدرسة المستر ديزي، ثمّ نزهته على شاطئ سانديماونت. الإثنا عشر فصلاً التالية تروي وقائع نهار بلوم (عوليس الرواية): الإفطار في منزله، حضور الجنازة، زيارة مكتب الصحيفة، خمّارة ديفي بارنز، المكتبة، شوارع المدينة وموكب نائب الملك، الموسيقى في فندق أورموند، الاصطدام مع «المواطن» في خمارة بارني كيرنان، مغازلة جيرتي ماكدويل على الشاطئ، المستشفى ولقاء ديدالوس (تليماخوس الرواية)، ثمّ مغامرتهما في المبغى. القسم الثالث يتألف من ثلاثة فصول تتوازى مع القسم الأول: بلوم وديدالوس في الملجأ، عودتهما إلى منزل بلوم في 7 شارع إيكلز، ثمّ حجرة نوم موللي (زوجة بلوم) وأخيلتها الجنسية التي تسردها في ذلك الفصل ـ التحفة، الشهير، الذي يسير كجملة واحدة متصلة بلا أيّة علامة وقف.
وكانت الطبعة الأولى من الرواية قد صدرت في العام 1922 عن مكتبة «شكسبير أند كومباني»، الباريسية الصغيرة، بعد أن عزّ على جويس العثور على ناشر آخر، لا في أوروبا ولا في أمريكا. وفي فصل بعنوان «استثمارات استهلاكية»، من كتابه الهامّ «مؤسسات الحداثة: النُخب الأدبية والثقافة العامة»، يروي لويس رايني حكاية صدور هذه الطبعة، فيقدّم تفصيلاً بالغ الدلالة حول الجانب المادّي ـ الاستثماري في حركة الحداثة الأدبية والفنية آنذاك. الطبعة الأولى تلك، كانت 1000 نسخة فاخرة، وُزّعت عن طريق الاشتراك المسبق وليس الشراء المباشر، وكان سعرها باهظاً تماماً بمقاييس ذلك الزمان.
وسجلاّت المكتبة، حول مبيعات الرواية، تشير إلى أسماء مثل أرنولد بينيت، ألدوس هكسلي، إديث ستويل، فرجينيا وولف، ونستون تشرشل، هـ. ج. ولز، و. ب. ييتس، شروود أندرسون، جونا بارنز، وليام كارلوس وليامز، هارت كرين، جون دوس باسوس. ما لا تشير إليه السجلات، في المقابل، هو حسابات المبيع الشعبي للروايــــة، الأمر الذي يُعــــنى رايني بمتابعـــــته جوهرياً؛ إذْ نكتشف أنّ الجمهور العريض لم يكن البتة في ذهن الناشرة، سيلفيا بيــــش، وأنّ اهتمامها انصـــبّ أوّلاً على نخبة محدودة من «كبار القرّاء والنقّاد»، ثم على نخبة أخرى غير متوقعة: أصحاب رؤوس الأموال المهتمين بالاستثمار في ميدان نشر الأدب الحداثي!
ويبقي تفصيل أخير، لعلّه يخدم اليوم في تذكير أمريكا بسوابق مأثورة في ميادين انتهاك حقّ التعبير، وهو أنّ «عوليس» مُنعت في الولايات المتحدة ــ مثل معظم ديمقراطيات أوروبا في الواقع ــ بوصفها «أدب دعارة» و»بورنوغرافيا»، تارة؛ أو لأنها تحتوي على «شيفرات جاسوسية»، تارة أخرى. ولم تفلح الرواية في بلوغ أوائل القرّاء في أمريكا إلا بفضل إرنست همنغواي، الذي تولى مسؤولية إدخال حفنة من النُسخ، تهريباً… طيّ بنطاله الفضفاض الشهير!
ويبقى، بالطبع، أنّ هذه الاحتفالات السنوية الواسعة بنهار، متخيَّل وروائي محض في نهاية المطاف، برهان ساطع على سطوة الأدب، وسلطة المخيّلة؛ حتى إذا كان النموذج، هنا، فريداً واستثنائياً.

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حي يقظان:

    أخي صبحي،

    إليكَ بعضَ التوضيحات حول كتاب «عوليس» (أو «يوليس» في موضع آخر)، الكتاب الذي لم يكن كاتبُهُ جيمس جويس ذاتُهُ يميل إلى تسميته بـ«الرواية»، على الإطلاق. وذلك لأن هذا الكاتبَ أراد من كتابهِ، كما أثبتَ بجدارةٍ في أدب الحداثة وما بعدها، أن يكون كتابًا تتجلَّى فيه أشكالُ الكتابةِ كلُّها.

    أولا، بالنسبة لما قالته محكمة الاستئناف الأمريكية إزاءَ حظر الكتاب، «لقد وضعتُ الكثير من الألغاز والأحاجي، التي ستشغل بال الأساتذة طوال قرون»، فإن تصريح جيمس جويس هذا ورد، في الأصل، في رسالة من رسائلهِ التي أرسلها إلى أخيه ستانيسلوس، عندما كان الأول (جيمس جويس) يقضي بعضًا من سنوات المنفى الذي فرضه على نفسه في مدينة ترِيَسْتة بإيطاليا.

    ثانيًا، فيما يتعلق بـ«يوم بلوم» الواقع في 16 حزيران (يونيو) 1904، فإن هذا اليوم الذي يُعتبر أطولَ يومٍ في تاريخ الأدب المكتوب باللغة الإنكليزية برمَّتهِ، إنما هو في الأساس اليوم الذي تمَّ فيه اللقاءُ الأول بين جيمس جويس وحبيبته نورا بارْنَكِلْ التي أصبحت زوجته فيما بعد. وبما أن ليوبولد بلوم نفسَهُ يظهرُ في الكتاب بصفته “يهوديًّا” من يهود إيرلندا القلائل، فإن العديد من الصهاينة المتعنِّتين يستغلُّون تأويل «يوم بلوم» هذا على أنه رمزٌ لزمن اليهوديِّ التائه الذي سيعود إلى وطنه (إي إسرائيل، رغمَ أنها مُوجَدَةٌ استعماريًّا) في آخِر المطاف.

    ثالثًا، وهنا بيت القصيد الذي يشيرُ إليه عنوانُ مقالِكَ هذا، فإنّ الاحتفالات السنوية الواسعة والمزعومة (والمُفَبْرَكة في أغلب الأحيان) بنهار متخيَّل تخيُّلاً فنيًّا محضًا ليست، في الحقيقة، برهانًا ساطعًا على سطوة الأدب وسلطة المخيّلة، كما تقول من منطلَق نقدي معمَّم، بل برهانًا أشدَّ سطوعًا على نفاق الحكومة الإيرلندية السافر والفاضح، الحكومةِ التي صارت، من جهةٍ، تدرُّ أموالاً خيالية من جرَّاء رعايتها “الوفيَّة” لتلك الاحتفالات السنوية، والتي كانت، من جهةٍ أخرى، تمارس كلَّ أنواع القمع والقسر والاضطهاد بحقِّ كاتب مبدع عاش جُلَّ حياتهِ بعيدًا عن مسقط رأسه دبلن ولم يكتب في سيرته الأدبية سوى عن دبلن، لتكون مدينة المدائن في تاريخ الأدب العالمي الحديث.

  2. يقول طارق كميل:

    الأخ حي يقظان المحترم

    أشكرك جزيل الشكر على كل هذه الإيضاحات القيمة.. والتي ما كنت أعرفها.. في حقيقة الأمر.. على الرغم من قراءتي المتأنية لكتاب جيمس جويس (عوليس) مرتين.. بترجمته العربية التي أنجزها طه محمود طه.. وقد صدق من قال بأن الترجمة خيانة للنص الأصلي.. على أكثر من صعيد..

    تحيتي الطيبة لك.. وجازاك الله كل الخير..

    والسلام

إشترك في قائمتنا البريدية