قبل أن يحصل أورهان باموق على جائزة نوبل للآداب، سنة 2006، اعتادت تركيّا الرسمية أنّ تتذكّر مرشحها الآخر، الأفضل في يقيني، كلما أزف الموعد السنوي لمنح الجائزة؛ أمّا قبل، وكذلك بعد، هذه المناسبة، فإنّ تركيا الرسمية ذاتها لا تتذكر الاسم إياه إلا لكي تغمغم وتهدّد وتستطير شرّاً، لأنه شخصية إشكالية. ليس هذا بسبب انتمائه الماركسي واليساري المعارض إجمالاً، فحسب؛ بل كذلك بسبب انحيازه الدائب إلى قضايا الفلاحين والكادحين والبؤساء عموماً، ثمّ لأنه أديب كردي منخرط في قضايا شعبه الكبرى والصغرى.
غير أنّ ياشار كمال أديب عالمي، في المقام الآخر الذي لا يقلّ أهمية؛ ومنذ عام 1955 حين صدرت الترجمة الإنكليزية لروايته «ميميد يا صقري»، ثمّ صدر الجزء الثاني منها تحت عنوان «إنهم يحرقون الأشواك»، لم يتردد بعض النقّاد الغربيين في مقارنته مع الروائي الروسي ليف تولستوي، أو الروائي البريطاني توماس هاردي. الأسباب كانت، وتظلّ، وجيهة لأنها ذات صلة بالموضوع الريفي والرعوي، وسيادة مناخات القرية كمحيط للفعل الروائي، ونهوض البناء الروائي على صيغة بارعة من الاندماج بين الوقائع التاريخية الموضوعية والحكايات المُتخيّلة، وبين الشخصيات الفعلية والشخصيات الروائية، وبين المحيط الأعرض للمجتمع والمحيط الأضيق للقرية.
من جانبي أميل إلى مقارنة كمال مع الروائي الأمريكي وليم فوكنر (الذي أعلن كمال إعجابه به مراراً، في كلّ حال)، لأسباب أسلوبية وتقنية؛ وأساساً بسبب اشتراك فوكنر وكمال في اختيار بقعة جغرافية وبشرية ذات سمات معقدة وخصبة وديناميكية، وذات أساطير وشعائر وحكايات مستقلة بذاتها ولكنها أيضاً قادرة على صناعة رموز كبرى محلية وكونية في آن معاً، تبدأ من تمثيل القرية وتنتقل إلى تمثيل الأمّة والثقافة، وتنتهي إلى تمثيل قيم إنسانية عليا تشترك فيها كلّ الشعوب والحضارات. هذه البقعة كانت مقاطعة «يوكناباتاوفا» بالنسبة إلى فوكنر، وكانت وما تزال سهول منطقة شوكروفا في جنوب الأناضول بالنسبة إلى كمال.
ولأنّ التقاط تفاصيل النسيج الاجتماعي والرمزي والأسطوري والفولكلوري لمنطقة من هذا النوع، تضمّ الأكراد والتركمان والأرمن والأيزيديين والعرب والشركس والأتراك أنفسهم، تتطلّب مقاربة ملحمية شاملة لعلاقة البشر بالمكان الرعوي والحكاية الواقعية؛ فقد توجّب أن تأخذ روايات كمال (كما هي حال روايات فوكنر في الواقع) شكل مطوّلات مسلسلة في ثلاثيات ورباعيات، حيث يواصل البطل الروائي الواحد (ميميد، سلمان، صالح…) رحلة طويلة في القرى والبلدات والسهول والجبال، ويمرّ بتواريخ الماضي مثل وقائع الحاضر، وينطق بلغات (كردية صورانية تارة، وتركية وتركمانية وعربية، وأرمنية طوراً)، يشرب الـ «عيران» والـ «قيمق» أو يأكل الـ «طرخنة»؛ يرقص الـ «كوفندة» وتحضر في مسيرته الطويلة بحيرة وان وجبال طوروس، مثل منطقة أورفة وساحل المتوسط، مثل مدن «القامشلي وحلب وديار بكر.
وكمال «بائع حكايات»، كما يقول عن نفسه؛ وفي الإعراب عن سعادته بأداء هذه الوظيفة، والتالي إيمانه بدور الكلمة في الحياة الإنسانية، قال: «لأن الكلمة كائن بشري، فإن البشر بحثوا عن الملاذ في قوّة الكلمة وفي سحرها. وفي سرد الحكايات كما في الكتابة كنت على الدوام أتحسّس سحر الكلمة وقوّتها، عميقاً في داخل قلبي (…) وينبغي على الذين يقرأون رواياتي أن يرفضوا استغلال الإنسان للإنسان. الفقر عارٌ على الإنسانية. ينبغي أن يخلو أي مجتمع من البؤساء. وينبغي غسل عار الفقر من جميع القلوب».
وُلد كمال عام 1923 في قرية حيميت الواقعة في منطقة كيليكيا الخصبة التي تقع بين جبال طوروس وساحل المتوسط، وبين نهرَي جيحان وسيحان، والتي سيتبدّل اسمها بعدئذ إلى شوكروفا. وهذه منطقة تاريخ عريقة، ففي طرس ولد القديس بولس الذي سينقل الديانة المسيحية إلى أربع رياح الأرض، وهنا كان الخطيب شيشرون محافظاً ذات يوم. وفي كتاب حواري بين كمال والشاعر الفرنسي آلان بوسكيه، يقول الأديب التركي عن مسقط رأسه: «في وسعك أن تنبش التراب أينما شئت، وعلى عمق لا يتجاوز المتر الواحد سوف تعثر على قطعة موزاييك بيزنطية».
والحال انّ عراقة الأصل هذه أضافت إلى أصالة كمال بُعداً تسامحياً عالياً، في مواقفه المطالبة بمصالحة كبرى وجوهرية بين الشعبين التركي والكردي، وفي دفاعه عن الحريات وحقوق الإنسان، وتعاطفه بقوّة مع انتفاضات الشعوب من منطلق إيمانه بأنّ الانتفاض هو واجب الأدب الأوّل. والكرد تحديداً، في الأيام الراهنة المثقلَة بالمحن، بحاجة ماسة إلى اقتفاء أمثولة هذا الضمير النبيل الكبير.
صبحي حديدي
شكرا للاستاذ الكبير صبحي حديدي على اهتمامه الانساني بقضايا الشعب الكُردي الذي يحفظ له مكانة كبيرة . لقد رسمت بريشتك الصادقة الحرة الجميلة صورة عن كاتبنا العظيم يشار كمال . شكرا استاذنا.
حبذا لو ذكر الكاتب الترجمة الصحيحة لروايته «ميميد يا صقري» و هي محمد و ليس ميميد