إذا ما اجتمع بعض الناس في ديوان أو جمعة وكان يحضرها طبيب أو مهندس بناء أو أستاذ تاريخ، وجرى طرح سؤال من أحد الجالسين عن أحد المواضيع الثلاثة السابقة… يبدأ الحاضرون في الجهر بآرائهم في الجواب عن السؤال المعني، ناسين أو متناسين، وجود الكفاءات الثلاث صاحبة الاختصاص، في الرد على السؤال المطروح، يفتون وهم لا يعرفون، وينسون الكفاءات المختصة.
إسرائيل لم تنتصر علينا في غالبية حروبها العدوانية، بشجاعة جنودها السوبرمانية، ولا بمعداتها وأسلحتها الخارقة… انتصرت فقط لأننا ضعفاء.
ولو كنا غير ما نحن عليه الآن، لجرت هزيمتها في كل اعتداءاتها، ولما كانت صورة الوضع العربي على ما هي عليه من الرداءة، كما الآن.
إسرائيل انتصرت، بمعرفة أعدائها (وهم كل العرب) بكافة تفاصيلهم، بدءا بجيوشهم وانتهاء بما تكتبه صحفهم اليومية، بدراسة كل ما يتعلق بالحياة العربية، انتصرت بالدراسات التي تجريها دوما وتطرح فيها مواضيع استراتيجية، بدءا من مؤتمرات «هرتزيليا» الاستراتيجية السنوية، وانتهاء بمراكز الدراسات والابحاث في الجامعات والكليات المعنية، والأخرى التابعة للصحف.
إسرائيل انتصرت لأن مسؤوليها المعنيين، سياسيين وعسكريين، يقرأون ما يقدم لهم من معلومات وأوراق، كل حسب مجاله. انتصرت لأنها تستقطب الكفاءات وتحترمها وتقدم لها ما تحتاجه لمواصلة إبداعات أصحابها، وتسميهم في وفودها إلى العالم، وتعمل دوما على إبراز كفاءاتهم على كافة الأصعدة، خاصة منها الكفاءات الثقافية، وفي المجالات العلمية والاقتصادية والأخرى المختلفة.
ترى القادة والمسؤولين الإسرائيليين في غاية التواضع في حيواتهم العملية: رابين سكن في شقة في عمارة سكنية… باختصار شديد، إسرائيل تعمل بموجب قاعدة هنيبال «إعرف عدوك». في عدوانها على لبنان عام 1982، أول خطوة قامت بها قوات الاحتلال في بيروت، نهب محتويات مركز الدراسات الفلسطينية. ليس صدفة ان تقوم باغتيال الشهيد غسان كنفاني، وقد قالت عنه غولدا مائير بعد اغتياله «لقد كان أخطر علينا من كتيبة دبابات وألف من (المخربين)».
لولايات المتحدة حليفة إسرائيل الإستراتيجية عند احتلالها للعراق، أكثر ما حرصت عليه، أن يجري إتلاف محتويات «المتحف العراقي»، لأنها تتعلق بحضارة العراق العربي، الممتد عميقا في التاريخ. ثاني ما مارسته قوات الاحتلال بالتعاون مع إسرائيل هو، اغتيال متدرج منتظم للعلماء والكفاءات العراقية في مختلف المجالات، وقد بلغ عدد الضحايا ما ينوف عن الثلاثة آلاف كفاءة عربية عراقية. إسرائيل حرصت على اغتيال العالم العربي المصري يحيى المشد، وغيره من الكفاءات العربية. بوش الابن اعلن صراحة، أنه سيعيد العراق إلى العصر الحجري، وفعلا سار على هذا الصعيد.
أيضا، في مقابلة صحافية مطولة أجراها الصحافي الهندي الشهير كارانجيا، صاحب ورئيس تحرير مجلة «بليتز» (كان صديقا للرئيس عبدالناصر، وصاحب مقابلات شهيرة معه، ومن المؤيدين للقضايا الوطنية العربية) مع وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك موشيه دايان، سأله الصحافي عن احتمالات الحرب مع العرب وما الذي ستفعله إسرائيل في حالة وقوع حرب محتملة معهم؟ أجاب دايان، «سوف نقوم بتدمير الطائرات العربية في مرابضها بضربة سريعة حاسمة، حيث تصبح السماء ملكا لنا، ونحسم الحرب لصالحنا». تساءل كارانجيا حينها باستغراب، وسأل دايان، وكيف تكشفون خططكم بهذه السهولة؟ أجابه دايان بجملته العنصرية الكريهة الحاقدة، «لاعليك، فالعرب لا يقرأون، وإن قرأوا لا يفهمون، وإن فهموا لا يطبقون». استغرب الصحافي هذا الجواب ولم يعلق، وانتهت المقابلة. انذهل كارانجيا وذهب بعد أشهر إلى مصر وقابل الرئيس عبدالناصر، وقد أعطاه الرئيس وثائق عن المؤامرات الأمريكية – الغربية – الصهيونية لتخريب مصر والعالم العربي، شكلت له في ما بعد: المادة الرئيسية لمحتوى كتابه الشهير الذي أصدره فيما بعد، بعنوان «خنجر إسرائيل».
قـدر لي أثناء وجودي الدراسي في موسكو، رؤية مقابلة تلفزيونية مع نجم الحرب العالمية الثانية بلا منازع، المارشال السوفييتي جيكوف، الوحيد الحائز بطولة الاتحاد السوفييتي خمس مرات، والوحيد الذي ناقش ستالين مرارا وخالفه، وصوّب رأيه… أجاب على سؤال محاوره، عن سرّ انتصارات الجيش الأحمر بقيادته في كل المعارك التي خاضها ضد القوات النازية ؟ بكل تواضع القائد أجاب بما معناه: لم أكن إنسانا غير عادي.. لم أكن أذكى من القادة الآخرين.. كنت وأمام كل مواجهة مع العدو، أبحث مع قادة أركان الفرقة، كافة الاحتمالات العسكرية الممكنة، في حالتي الهجوم أو الدفاع، ثم نضع خطتنا لكل احتمال، وبعد أن ننتهي، أذهب وحيدا إلى موقعي، أفكر في احتمال لم نبحثه، وكان ضائعا عن تصوراتنا. وببحثي غالبا ما وجدت هذا الاحتمال غير المتوقع. كنت أستدعي هيئة الأركان مرة أخرى ونتشارك معا في رسم المخطط له.. لذلك لم يفاجئنا العدو في كافة المعارك، التي قدّر لي تولي المسؤولية المباشرة فيها. كان ستالين يبتعثه إلى كل الجبهات العسكرية المهمة، والأخرى المهددة بالخسارة، التي لها تداعيات استراتيجية مهمة، أشرف جيكوف على معارك كثيرة لا تعد ولا تحصى.
الغريب، أن إسرائيل في عدوانها على الأمة العربية وثلاث من دولها عام 1967، طبّقت خطة دايان بحذافيرها. أكثر ما يؤلم، كتاب الجاسوس الصهيوني باروخ نادل، بعنوان «وتحطمت الطائرات عند الفجر»، الذي يتشفى فيه بالعرب وبعبدالناصر حد الاستهزاء القاسي العنصري الوقح القبيح. الغريب أن الضربة الإسرائيلية جاءت في سياق أجواء التوتر بين العرب وإسرائيل، بعد إغلاق عبدالناصر لمضائق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية، وكانت نسبة احتمالات نشوب الحرب في كل ساعة.. أكثر من 90٪، وفي أجواء استنفار الجيوش في إسرائيل وفي الثلاث دول العربية.
في عالمنا العربي، تهاجر الكفاءات العربية إلى الغرب نظرا لافتقارها إلى مجالات العمل في بلدانها، حيث أيضا لا يجري احترامها بل تنال كل التـــقدير، للأسف في أثناء عملها في الخارج. في عالمنا العربي، إذا ذهب وفـــد رسمي منه في زيارة إلى أحد البلدان الجنوب آسيوية (على سبيل المثال وليس الحصر) لا تجري تسمية الباحث المختص في هذه المنطقة من العالم، ضمن أعضاء الوفد، ولا تجري أيضا الاستفادة من أوراقه ومعلوماته وأبحاثه من أعضاء الوفد قبل زيارتهم إلى البلد المعني.
المسؤول أو من تحت مسؤوليته من ذوي المناصب العالية، هم المسافرون في الوفد، ومسؤول الوفد وحتى في النقاشات الرسمية: هو المتصدي للجواب على كل أسئلة الوفد المقابل، على كافة الأصعدة وفي كافة المجالات، أسئلة السياسة، الاقتصاد، التنمية، وغيرها وحتى لو كان متخصصا في الكيمياء، (عيب) أن لا يعرف المسؤول الأجوبة في كافة المواضيع، ويعتبر، أن من « الإهانة» أن يحيل الإجابة إلى عضو آخر مشارك في الوفد… حتى لو كان مختصا.
حتى القضية الفلسطينية تندرج في السياق ذاته، ذهب الوفد الرسمي الفلسطيني إلى مباحثات أوسلو (المشؤومة)، ومن ثم الاتفاق على متاهة نصوصها وخرائطها وصياغتها القانونية، بدون خبراء قانونيين أو جغرافيين مختصين في الخرائط، وتمت الاستعانة فيما بعد بخبراء خرائط مصريين. كان منتظرا أن تشكل الأحزاب والتنظيمات العربية، ذات الاتجاهات المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حالة نسبية أفضل، لكنها وقعت وتقع في المطب ذاته، فوفودها الرسمية وإعلاميوها هم الوجوه المعروفة ذاتها ، الطائرة دوما في السماء، والتي تراها على الإعلام في كل مناسبة… لم يقم حزب عربي بإبراز كفاءاته. ما تحققه هذه الكفاءات من معرفة من الناس لها.. هو بفضل جهودها الذاتية فقط في إبداعاتها.
لكل ذلك ومن أجل التأكيد على كل تلك الامراض.. جاءت رواية الكاتبة الإيرلندية المشهورة إتيل مينون، المؤيدة للقضية الفلسطينية حتى النخاع (وبعد وقت قصير من النكبة) بعنوان «في الطريق إلى بئر سبع»، التي روت فيها المآسي الفلسطينية، والتهجير والنفي الفلسطيني على أيدي المحتلين الفاشيين الصهاينة، والتي عبّرت من خلال سطورها عن التقصيرات العربية. ولذلك أيضا، قالت كلمتها الشهيرة، «العرب أسوأ المحامين عن أعدل القضايا».
بالطبع ليس المعنى من مقالتي أنني أهمل، «نظرية المؤامرة»، فهذه موجودة منذ بدء نشوء مفاهيم القومية والشعب والأمة، وبدء انتقال البشرية إلى مفهوم الدولة وأهمية إنشائها بعد تحول البشرية وانتقالها من مرحلة الإقطاع إلى المرحلة الرأسمالية. وطننا العربي وقبل ظهور دوله، جرى ويجري التآمر عليه نظرا لموقعه الجيوسياسي بالمعنى الإستراتيجي، وتضاعف التآمر بعد اكتشاف خيراته خاصة، ثرواته النفطية. من أجل كل ذلك، جرى زرع دولة الكيان بين شطريه (في آسيا وافريقيا) لمنع تكامله وتوحيده ولاستمرار تقسيمه.
نظرية المؤامرة قائمة، لكنها أحد جوانب الصورة. أما الوجه الثاني منها فهي عواملنا الذاتية.. تقصيراتنا.. وصولا إلى تشكيلها أمراضا قاتلة تنخر النسيج المجتمعــــي بشكل متــواصل وتعمل على إضعاف مقاومتنا ومجابهتنا للمخططات التآمرية، وتجعل منا، عرضة للهزيمة… للأسف إلى ظاهرة العنف ضد المرأة في العالم العربي… فإلى لقاء.. وبانتظار تعليقاتكم وآراءكم.
٭ كاتب فلسطيني
د. فايز رشيد
المسؤول العربي شيخ المعرفة في كل المجالات. لذلك من الصعب أن يتنازل لغيره عن المشيخة حتى وإن كان أعلم منه. لذلك لا يوجد تجديد في الدماء والافكار والآراء بل هو الرأي الأوحد المتكرر وتلك هي آفة البقاء على الكرسي والمنصب. ألاحظ ذلك حتى في مجالات غير مهمة مثل الرياضة مثلا حينما يأتي رئيس الإتحاد وهو منصب إداري ليظهر على شاشة قناة رياضية ويقوم بتحيليل مباراة كاملة فنيا والمصيبة أن مراسل القناة يوجة له الأسئله الفنية رغم عدم اختصتصه بها والرئيس لا يقول لا أعلم ولا يعطي من هو أعلم منه للتحليل…مثال بسيط اضيفة لأمثلة الكاتب وله جزيل الشكر والتقدير
يضاف الى ماذكره الكاتب مصيبة أخرى وهي ان البحث العلمي بكل أنواعه في جامعات العرب يجب قبل المباشرة ان توافق على موضوعه أجهزة كبار المسؤولين وبخاصة المخابرات في حين ان الباحثين هم الذين يطلعوا ويحللواا ويقدموا لبلادهم. خلاصة علمهم ومعرفتهم كي يستفيد صانع القرار منها
هناك سد نفسي خلقه استبداد كبار المسؤولين وزبانيتهم امام القراءة والتحليل والبحث الذي يقوم به العلماء العرب ،. وليس هناك نقص في الكفاءة العربية بل هناك قصور عقلي لدى كبار المسؤولين في منعهم للمبدعين من تقديم نتاج عملهم ليستفيد منها وطنهم
أما يكفي العرب من نقص القراءة ان الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام قد اشتكانا الى المولى عز وجل في القران الكريم
( يارب ان قومي اتخذوا هذا القران مهجورا)؟
وا خجلتاه منك يا رسول الله
اول مرة اقرألك مقال د. فايز رشيد ؛ صدقا أعجبت جدا بكتابتك وتعرفت علی نقاط لم اسمع بها من قبل فشكرا جزيلا لك.
مصيبة العرب دوما هي الأمية القاتلة مرض مستشري يجري في عروق حتی بعض السياسيين ؛ ممن يمسكون بزمام الحكم في عالمنا العربي المغلوب علی أمره.
نور العلم يهدي للنجاح والتوفيق ويفترض اننا امة إقرأ؛ لكن للأسف نحن لانقرأ لذلك حالنا علی مانحن عليه.
وشكرا استاذ علی المقال المميز.